«انطلقت» أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمس، لكن مع مزدوجتين بارزتين تحصران كلمة انطلقت، لأن زعماء العالم لم يغادروا بلدانهم، وكانوا سجّلوا تدخلاتهم منذ أيام لتُلقى تباعا في مشهد «تمثيلي» غير مسبوق في تاريخ الهيئة الدولية، التي ورثت «عصبة الأمم» في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولأول مرّة تغيب المواكب الدبلوماسية الاستعراضية عن وسط مانهاتن، وتغيب معها اللقاءات الهامشية، التي كانت وقتا طويلا مادة خصبة للجدل الإعلامي والتحالفات السياسية المفاجئة والتي قد تطغى على الحدث الرئيس نفسه.
إنها لعنة «كوفيد» التي زلزلت العالم في هذه السنة «الكبيسة» بامتياز، فتسببت في إلغاء أعرق المهرجانات السينمائية و»زحزحت» الألعاب الأولمبية إلى سنة قادمة مبدئيا، وجعلت مؤسسة «جوائز نوبل» تلغي حفل توزيع الجوائز هذا الخريف لأول مرة منذ سنة 1944، واكتفت بمجرد «حفل افتراضي».
ويبدو أن العالم كان يسير نحو هذه «الافتراضية»، التي قد يجتمع فيها الآلاف من الناس من «اللامكان»، ويختلط فيها الأشخاص الحقيقيون بالآلات التي تحاكي البشر إلا أن «جائحة» كورونا سرّعت الأمر، وما بعد كورونا ليس كما قبله.
ويفترض أن يتحوّل الطارئ إلى دائم، وتتقلص الحركة اقتصادا للوقت وللمال وتختفي وظائف وتظهر أخرى، ويتكاثر عدد القراصنة لكنهم ليسوا من راكبي البحر، بل مجرّد أناس متخفّين يستولون على كلمات المرور فيخترقون حسابات بنوك ومؤسسات سيادية كبرى بـ»كبسة زر».
لقد تغيّرت طريقة أداء الزعماء السياسيين، ولم يصبحوا في حاجة إلى قاعات كبرى للخطابة ولا حتى جماهير يلتقونها بشكل مباشر، بقدر ما أصبحوا في حاجة إلى مجرد تطبيقات إلكترونية والتحكّم في البث المباشر.
إنه التحدي السياسي الذي يذكّر بتحدي جورج الخامس، ملك بريطانيا في بدايات القرن العشرين، عندما خيّبه نجله إدوار وتخلى عن ولاية العهد فاضطر لإعداد ولده الآخر، الذي سيعرف لاحقا باسم جورج السادس، وكان هذا الأخير يعاني مشكلات في النطق، ففي لحظة ألم قال الأب لابنه: «عليك باتقان فن الخطاب الإذاعي، فمنذ بداية الإذاعة، لم يعد الملوك فرسانا يقودون المعارك وأصبحوا مجرد ممثلين».