وقبل عدة سنوات أعلنت غوغل عن إطلاق نظام الترجمة الآلية العصبية (GNMT)، مؤكدة أنه لن يمكن تمييز الترجمات الآلية بهذه التقنية عن ترجمات البشر، وتزايد الاعتقاد بأن المهنة العريقة في طريقها إلى الاندثار على أيدي الآلات.
ومع ذلك لا يبدو أن وعود المبرمجين بإزالة الحواجز اللغوية وانتفاء الحاجة إلى المترجمين قد تحققت بعد، فمنذ عقود -عندما تم ابتكار أول عملية ترجمة آلية عبر الحواسيب- لم يتم الاستغناء عن المترجمين الذين لا يزالون يعملون في شتى المجالات، بما فيها السياسة والتجارة والإعلام والسياحة وحتى الدوائر الحكومية. ويتزايد الاعتقاد بأن الترجمة الآلية ستفيد كأدوات مساعدة للمترجمين البشريين، بدلا من أن تكون بديلا عنهم، وذلك لمجموعة من الأسباب.
ترجمة الكلمات أم الأفكار؟
يعتقد كثير من المترجمين أن الآلات تترجم الكلمات، بينما يترجم البشر الأفكار التي لا تستطيع البرمجيات والخوارزميات الآلية أن تنقلها بين اللغات المختلفة، إذ كل ما تفعله هو تحويل كلمات اللغة إلى لغة أخرى باستخدام القواميس وقواعد النحو واللغة.
لكن الترجمة ليست مجرد تحويل كلمات اللغة إلى لغة أخرى، وهنا يظهر عيب الآلات الكبير، إذ لا تستطيع فهم الفكرة الكامنة وراء النص، كما تفشل في نقل “النبرة” واللمسة الإنسانية، مما يحوّل النصوص إلى كلام مسطح بلا روح.
ويميز الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن بين ثلاثة أنماط مختلفة من الترجمة، هي “الترجمة التحصيلية” التي تنقل النصوص بلا تمييز ولا تقويم، و”الترجمة التوصيلية” التي تبقي على التعارض الجزئي بين الفلسفة والترجمة وتنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال ظاهر بقواعد اللغة، و”الترجمة التأصيلية” التي تهدف إلى رفع التعارض بين الفلسفة والترجمة وتنقل ما يثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه لغويا ومعرفيا وحتى عقديا.
الأخطاء والعواطف
إضافة إلى ذلك، لا يمكن للآلات تحديد وتصحيح الأخطاء في النص الأصلي، فبخلاف الأخطاء الإملائية والمطبعية لا تتعرف البرمجيات والخوارزميات على أخطاء النص المصدر وتحوّله لغويا إلى اللغة المستهدفة بدون إدراك لكونه خطأ بالأساس، ويشمل ذلك أخطاء الدلالة والمصطلحات والبيانات الخاطئة والمتناقضة التي لا يمكن أن يدركها غير المترجم البشري.
كما لا تقرأ الآلات العواطف، وتتعامل مع النصوص المحملة بعواطف بشرية بطريقة محايدة، بينما يستطيع المترجمون المحترفون العثور على “شفرة” مكافئة للمعنى في اللغة الأخرى، وربما يعيدون بناء الجملة أو الفقرة كاملة باستخدام كلمات مختلفة عن النص الأصلي لنقل الشحنة العاطفية وتحقيق نفس الاستجابة لدى القراء.
ويتطلب ذلك فهما عميقا ليس فقط للغة المصدر واللغة المستهدفة، وإنما كذلك للثقافات المختلفة وراء اللغات. ورغم التطور الهائل في محركات الترجمة الآلية وبرمجياتها وتزويدها بنصوص هائلة، فإن إمكانية إدراك السياق والأفكار والثقافة لا تزال محدودة أمام الآلات.
وفي تقرير سابق لمجلة “لي زيكو”، أوردت المجلة الفرنسية آراء عدد من الخبراء المختصين في الترجمة الذين أشادوا بالتطورات في الترجمة الآلية بفضل استعمال نظام تعلم آلي يتأسس على شبكات خلايا عصبية، وهي التكنولوجيا الذكية الأحدث حاليا.
لكن التقرير نفسه أشار إلى أخطاء شابت الترجمة الآلية في تجربة لترجمة أبيات الشاعر شارل بودلير مثلا، إذ لم تتوفق الترجمة الآلية في القيام بالمطلوب واكتفت بترجمة حرفية دون أن تترجم المعاني.
ويرى الصحفي جيديون لويس لدى صحيفة “نيويورك تايمز” أن الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة مكن في غضون عامين من تحقيق يوازي التقدم الحاصل على مدى عشر سنوات، مضيفا أن شبكات الخلايا العصبية تتمكن حاليا من اكتشاف الروابط بين اللغات.
الثقافة ونحت المصطلحات
ومع ذلك لا تستطيع الآلات صياغة مصطلحات جديدة تعبر عن مفاهيم وعمليات جديدة لم تكن موجودة من قبل، إذ يستخدم الفلاسفة والأدباء وحتى التقنيون طرقا إبداعية مختلفة للاشتقاق وتوليد الكلمات التي يحتاجونها للتعبير عن أفكار أو تقنيات جديدة. وفي المقابل تفتقد الآلات لهذا النهج الإبداعي الذي يتطلب قدرات تحليلية عالية حتى بالنسبة للمفاهيم التقنية.
ولا يمكن للآلات أن تنقل جمالية النص والروح في الأعمال الأدبية العظيمة، إذ تعد البراعة التعبيرية للأدباء ميزة خاصة يتمتع بها الأدباء الذين يقدرون على ابتكار استعارات جميلة لاستحضار مشاعر قوية، وكثيرا ما تكون نتيجة عمل إبداعي شاق. وحتى لو كانت الآلات قادرة على أن تحل محل المترجمين في مجالات معينة، فإن الترجمة الأدبية ستظل امتيازًا حصريًّا للمترجمين البارعين دون غيرهم، وفي المقابل يمكن أن تحل الآلات فعليا محل “المترجمين” الذين يترجمون بطريقة “آلية” وغير إبداعية.
وإذ تفتقد الآلات لفهم الثقافات المختلفة حول العالم، فإنها تفشل كثيرا في إدراك التعقيدات الكامنة خلف التعبيرات الثقافية الخاصة ولا تستطيع نقلها إلى ما يكافئها في اللغة المستهدفة. ويلعب السياق دورا مربكا بالنسبة للآلات، بينما يخدم المترجمين البشر ويساعدهم في إتقان نقل المعنى.