يدافع الدكتور عبد الرزاق قسوم عن فتوى تحريم التطبيع مع إسرائيل التي أصدرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ويقول إن الذين أقدموا على التطبيع مع العدو المحتل، «غرباء عن واقعهم الوطني».
وفي حوار مع «الشعب ويكاند»، يفصّل قسوم في موقف الجمعية من وثيقة تعديل الدستور، كما يتناول قضايا أخرى ذات الصلة.
* الآن وقد أصبح التطبيع «واقعا» بفعل تعدّد الدول المطبّعة، هل تحريم ذلك أصبح على سبيل «إبراء للذمة»؟
** إن من المسلّم به عقلا، ودينا، وأخلاقا، أن الحرام يبقى حراما، مهما يكثر مقترفوه، ويطل زمانه، وتغيرت عليه الأحوال، وكما يقول نزار قباني:
الخمر يبقى خمرا وإن تقادم عهدها وقد تتبدل الكؤوس والأكواب
ذلك أن «إبراء الذمة « لا يغير الظلم إلى حق، والاحتلال إلى الفتح، والعدو إلى صديق.
ثم من قال إن التطبيع أصبح واقعا، وهو واقع بالنسبة لمن ؟ إن «المطبعين» لا يعبرون عن الواقع الجماهيري العربي الإسلامي، وهو الواقع الصحيح، أما الذين أقدموا على التطبيع مع العدو المحتل، فهم غرباء عن واقعهم الوطني، ولا يمثلون إلا نشازا في معزوفة اللحن العربي الإسلامي السليم.
* هل تحريم التطبيع مع إسرائيل، اجتهاد فقهي أم موقف سياسي، وما موقفكم من بعض الفقهاء المعروفين الذين أيّدوا ذلك؟
** معاذ الله، أن يصل الاجتهاد الفقهي إلى حد تحليل المحرم، فالفقه علم يمارسه ذوو العقول السليمة التي تتصف بالصفاء، ولا مكان فيها للتدنيس أو الغباء.
إن كون التطبيع مع إسرائيل موقف سياسي، فعن أية سياسة تتحدث؟ إن السياسة في مفهومها الصحيح موقف وطني، نابع من مبادئ حماية الأوطان وصيانة قداسة الإنسان، والتأني بهما عن نزغ أي شيطان.
فإنا وجد بيننا، من يحشرون أنفسهم في زمرة الفقهاء، الذين يحللون الحرام، فأولئك: هم إخوان الشياطين، أو ما يمكن وصفهم على تعبير الفقه نفسه، بالتيوس المستعارة، الذي يحللون بالأوامر، وقد تحدث عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : «لعن الله المحلل والمحلّل له».
* كيف تقرأ الآن المشهد «الشرق أوسطي» الجديد ؟ هل تمّت «صفقة القرن»، وما تأثير ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية؟
** إن حلفاء إسرائيل من جهابذة الغرب قد برعوا في نحت المصطلحات المظلومة، مثل مصطلح «الشرق الأوسط»، وذلك لطمس المفهوم الصحيح الذي هو العالم أو الوطن العربي، الذي يقضي ضمنيا إسرائيل.
كما أن مما برع فيه هؤلاء، الناحتون مصطلح «صفقة القرن»، أو «لعنة القرن» أو «صفعة القرن»، وكل ذلك محاولة منهم لطمس القضية الفلسطينية بإفراغها من مضامينها الصحيحة، والقضاء على وجودها وحدودها، كتحويل الفلسطينيين إلى مجرد لاجئين، ومنح القدس وهي القبلة الأولى للمسلمين، إلى عبدة الهيكل المزعوم واستئصال المسجد الأقصى وإخراجه من إطاره المعلوم.
أما عن تأثير ذلك كله على مستقبل القضية الفلسطينية، فهو تأثير معدوم، ذلك أن مستقبل القضية الفلسطينية يصنعه ويضمنه المؤمنون من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والأساسيين الحقيقيين.
فطالما كتائب الأقصى، وقوافل الشهداء، وجحافل السجناء تتوالى، وطالما أطفال الحجارة، وقناديل الإدارة، تظل مضاءة، كالمنارة، فلا خوف على القضية الفلسطينية، وإن المستقبل سيكون لمن يضحي بالروح في سبيل قضيته، لا من يدفع الدولار، ويسير في موكب العار.
* وجّهتم إلى لجنة صياغة الدستور مجموعة من الاقتراحات، قلتم إنهم لم يأخذوا بها. الآن وقد أصبح المشروع جاهزا للاستفتاء، كيف تقرؤون جديده مقارنة بسابقه؟
** نحن نعتقد، بأن الدستور في كل بلد هو عنوان طموحات وتطلعات شعبه أي الغالبية العظمى من الشعب. ويكفي أن نقرأ نصوص أي دولة لنقرأ فيه روح شعب تلك الدولة، وطبيعة ائتمانها الحضاري.
وكنا نظن، وبعض الظن ليس بإثم، أن الذين أوكلت إليهم مهمة صياغة الدستور، سيتسمون بالوفاء الكامل لروح شعبنا العربي المسلم حضارة، الأمازيغي أصالة، وهي مقومات التكامل الحضاري لدى أبناء وطننا، لكن ما راعنا إلا أن لجنة الصياغة، قد جاءت عن هذا الخطأ الوطني الأصيل.
وإيمانا منا، بإمكانية تصحيح الخطأ، قدمنا، باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مقترحات للرئاسة حرصا منا على تدارك الأخطاء، وتصحيح ما قد يطفو على السطح من عناء، غير أن لجنة الصياغة لم تأخذ باقتراحاتنا، وها هو النص المقدم للاستفتاء يعاني من الكثير من النقائص.
* بخصوص مشروع المادة المتعلقة بـ «حرية المعتقد»، البعض قال إن مقترحكم هو بمثابة إفراغ المادة من محتواها، كيف تعلّقون على ذلك ؟
** قلت في جوابي عن سؤال سابق إن مقترحات جمعية العلماء، كانت بدافع إزالة الغموض عن بعض المواد، وتفادي التأويلات لهذه المواد، في علاقتها بالواقع الوطني.
وخوفنا مشروع، لأن الضبابية التي طالت بعض المواد، تصبح خاضعة في تطبيقها لنفسية المشرع، وقناعته وإيديولوجيته.
ومن هذه المواد المادة المتعلقة «بحرية المعتقد» فهذا المصطلح فضفاض، يحتوي على عدة مفاهيم مغلوطة.
فقد يستخدم هذا المعتقد عبدة الشيطان، فيقولون، من حقنا أن نمارس حقنا في العبادة التي يكلفها لنا الدستور.
كما قد يستغلها البعض الآخر الذي يطالب بحرية الأديان، في وطن ٩٩٪ منه ينتمون إلى الإسلام، فبهذه الحرية حرية المعتقد، يمكن، للمتطرفين، والداعشيين، والمبشرين بدبابات أخرى، من حقهم في تحويل الناس عن معتقدهم، باسم «حرية المعتقد».
نحن إذن لم نفرغ المادة من محتواها، كما يتهمنا البعض، بل على العكس من ذلك نحن ندقق ونعمق مدلول المادة، حتى لا يستخدم أداة لتمزيق وحدة الوطن، ودس، الفتنة والذبذبة بين عقول أبنائه.
تتمة حوار صفحة ٢٤
* تكلمتم عن «بيان أول نوفمبر» مرجعية للدولة البعض قال إن جمعية العلماء المسلمين في صيغتها الأولى لم تلحق بثورة أول نوفمبر بشكل رسمي إلا سنة 1956 ؟
** إنكم تتكلمون عن «البعض» وناقل الكفر ليس بكافر فقد كنا نظن أن الجهل بالتاريخ صار مستحيلا في عصر العلم، والتكنولوجيا، والكشف عن الحقائق.
إن «أول نوفمبر» مرجعية للدولة وللشعب ويمكن القول، بأن ما قامت به جمعية العلماء المسلمين، في عملها الإحيائي التغييري، يسمح بالقول، بأن بيان أول نوفمبر، هو الذي التحق بمنهج جمعية العلماء، من حيث تجسيد المبادئ التي قامت عليها الجمعية والتي أصبحت تعرف اليوم بالثوابت الوطنية، وإن الشعار الذي رفعه ابن باديس «الوطني قبل كل شيء، والحق فوق كل أحد «إن هو إلا المقدمة السليمة التي كانت أول نوفمبر، نتيجتها العملية فإذا أضفنا إلى ذلك، دستور الجزائر المستقلة الذي احتواه نشيد الإمام عبد الحميد الصنهاجي:
شعب الجزائر مسلم
وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله
أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له
رام المحال من الطلب
هذا على الصعيد النظري، أما على الصعيد العملي، فمواقف علماء الجمعية لا تخفى على ذي علم، وذي عقل، وذي وطنية.
فالنداء الذي وجهه الإمام الإبراهيمي من صوت العرب بالقاهرة، يوم الثالث من نوفمبر، يدعو فيه الجزائريين إلى الانضمام إلى الجهاد.
والخطاب الذي وجهه الإمام الإبراهيمي يوم الخامس من جانفي 1955 إلى الملك سعود، من رسالة طويلة قوله:
«يا صاحب الجلالة !
ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية السلفية، والثقافية العلمية العربية بالجزائر، وأعلم الناس بآثارهما الطيبة في الأمة الجزائرية».
يضيف الإمام الإبراهيمي في نفس الخطاب :
«تتبعنا هذه الأطوار باهتمام مصحوب بالاغتباط والسرور، والدعاء لجلالتكم، إلى أن قرأنا أن سفيركم بواشنطن تكلم باسم جلالتكم في قضايا الجزائر الدينية والثقافية والسياسية كلاما رسميا، قويا واضحا جريئا، عليه نور إيمانكم وعزيمتكم».
ويضيف الإمام في برقيته:
«فاسمحوا لنا يا صاحب الجلالة أن نلفت نظر جلالتكم إلى أن من بين رجالات العرب، رجلين متخصصين في الإلمام التام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها… وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري، والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، فإن ذا وافق نظركم السامي على أن تكلفوهما أو أحدهما، بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر، والدفاع عنها باسم جلالتكم… إن رأيتم هذا ووافقتم عليه.
كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع عالم بأدلتها، وبراهينها، محيط بجزئياتها».
لقد قطع مثل هذا الموقف قول كل خطيب، فليخرص الأفاكون.
* بخصوص مادة» تمازيغت»، ألا ترى أنه من الصعب فرض الحرف الذي تكتب به والأمر يحتاج إلى النقاش معمّق بين المختصين؟
** إن الأمازيغية كلمة حق أريد بها باطل، وهي واضحة ثقافيا، وحضاريا، ووطنيا، إلا في عقول من يريد استغلالها سياسيا وحزبيا.
إن «تمازيغت» إرث جزائري متنوع اللّهجات، وهو نابع من أطياف الشعب الجزائري في جميع جهاته، فمن الطبيعي أن يؤصل هذا الإرث الجزائري، فيكتب بالحرف الوطني الذي يوّحد الجزائريين، وهو الحرف العربي الإسلامي، وذلك ضمانا لالتفاف الجزائريين حوله.
وتبقى الإشكالية الأخرى، وتتمثل في توحيد لهجاته، والنأي به عن الطائفية والجهوية، كي يكون ملكا للجميع، ويحيطه الجميع، وأهم عقبة في هذا هو التدخل الاجتماعي في قضيته.
والأكاديمية البربرية في فرنسا التي تعمل على «تصفيته» من الكلمات العربية ومن الحرف العربي، فحذار من الوقوع في هذا الفخ.
* فكرة «مفتي الجمهورية» قديمة، لكنها لم تأخذ طريقها إلى التجسيد، كيف ترى السبب، وهل ترى أنها صالحة في ظل دولة مدنية فيها مذهبان (المالكي والإباضي؟
** إن فوضى الفتوى التي تعاني منها الجزائر هي الدافع القوي اليوم، إلى تنظيمها وتحديد مرجعيتها، وهو ما حدا بنا في جمعية العلماء إلى اقتراح مجلس أعلى للفقه والفتوى، يضم خيرة علماء الجزائر، على أساس الكفاءة العلمية، أيا كان مذهبهم.
ولطالما حذّرنا من أن الفتوى لا تتعلق بشخص، ولكنها من اختصاص هيئة، ولذلك طالبنا بضم المجلس المقترح، متضلعين في الفقه بشقيه المالكي والإباضي، ومدعمين بعلماء في الطب، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، لأن النوازل اليوم أصبحت ذات طابع شامل، يشمل الدماء، والحروب، والنزاعات الاقتصادية، والعقد النفسية، إلخ.
ولا عبر، بالقول بأن الدولة المدنية قد يكون عائقا، فالأصل في الدولة أن تكون مدنية لا عسكرية، وأن تكون شاملة لا طائفية، ومن أحسن من الدين عموما، والفقه على الخصوص، لتحقيق هذا الهدف.