واحدة من الإشكاليات السياسية التي ينبغي أن تجد لها حلا نهائيا دائما، في مسعى بناء الدولة الجديدة، مسألة الحكم.
في عالم اليوم تغيرت الكثير من المفاهيم وتداخل عالم الاقتصاد والمؤسسة وأنماط إدارتها مع إدارة شؤون الدول، من ذلك جاء الحديث عن الحوكمة (la gouvernance) والحديث عن الرشادة، وعوضت هذه المفاهيم مفاهيم أخرى سادت، مثل التخطيط والعدالة الاجتماعية، التي عوضت بالشبكة الاجتماعية وحقوق الشعوب التي عوضتها حقوق الإنسان والتنمية المستقلة بالتنمية المستدامة والعولمة، التي عوضت الامبريالية وغير ذلك كثير.
في خضم هذه التحولات بدأ الحديث عن الحوكمة وعن الرشادة وليس عن الحكم.
الحكم من مسائل الدولة الأساسية، إنه شكل ونمط إدارة شؤون دولة، مهما كانت طبيعة الدولة، ملكية أو غيرها، وهو كان يعني حكم عائلة أو حكم ملك أو غيرهما، في إطار إمبراطورية أو في إطار دويلة أو مملكة.
ثم جاءت الدولة الوستفالية الحديثة وجاءت معها مفاهيمها وقواعد الحكم الجديدة، ثم جاءت قواعد إدارة الدول «الديمقراطية»، أو لنقل جاءت وتأسست مشاركة دافعي الضرائب في اختيار المنتخبين وفي مراقبة الحكومات، ثم جاءت العولمة وجاءت هيمنة عالم المال والاقتصاد، فصار هذا العالم يعمل على فرض هيمنته على الدولة، ونقل إليها بعضا من مفاهيمه وبعضا من مناهج عمله.
الحديث عن الحكم اليوم يأتي من زاوية السلطة التي تتولى تسيير شؤون الدولة ومؤسساتها، وكل الأطراف التي تتدخل في القرار. شكل الحكم هو ما يعكس شكل الترتيب المؤسساتي، حتّى وإن كانت الممارسة السياسية للحكم لا تتطابق بالضرورة، في جل الأنظمة، مع نصوص الدساتير وأحكامها، وطبيعة العلاقات داخل نظام الحكم بين قمة الهرم والناس وبين السلطات وبين الأجهزة والمؤسسات وبين جماعات النفوذ، خاصة نفوذ المال، ودوائر القرار.
لهذا فإن مشروع الدستور المقترح يُعد لبنة أساسية لإعادة النظر في قواعد نظام الحكم، وفي الرقابة على السلطة وتقييدها بشكل يحميها من الشطط ويحمي الناس من تعسفها ويحمي الدولة من تبعات تقصيرها وأخطائها.
لهذا فإن رشادة الحكم، أي التقدير الصائب والممارسة الكفأة والمسؤولة، من أساسيات الدولة الجديدة والدولة الحديثة ومن مستلزمات تحقيق تغيير كامل وشامل في ممارسة السلطة وشرط أساسي حتى يكون التغيير ملموسا عند الناس.