لو حكا لي صديق ما رأيته ووقفت عليه البارحة صباحا في حافلة «إيتوزا» متوجّهة إلى المرادية، لتحفظت على بعض تفاصيل القصة، التي سأرويها بخجل في الكلمات، وتصويب في فواصل الأحكام المسبقة، التي تسبق كثيرين في زمن صناعة رأي عام بـ»فايسبوك» وإخوانه الافتراضيين.
فتاة جميلة، حدّ الظهور على صفحة أولى لمجلة تهتم بأخبار المشاهير، تتمتم كلمات، وهي واقفة تمسح الأفق بعينيها الخضراوين، بهندام خارج توا من عالم الموضة، وبشعر أصفر متهدّل على كتفين يحملان أريحية وعنفوان العشرين. كانت طوال الطريق تردّد الكلمة نفسها المرسومة على ثغر يبدو أنه متعود عليه، ذلك انه يرسم مخارج الخروف بدقة متناهية وبطلاقة لسان يخفي «هوية»، لا تظهر من أول نظرة، ولا ثاني نظرة ولا ثالث نظرة، التي لا ينصح بها من يطلقون أحكاما مسبقة على هذه الفتاة غير العادية..
ركزت بشكل خاص على تلك الكلمة، التي لو جهرت بها هذه الفتاة أو من كان في سنها في سنوات الدم والدموع، تسعينيات القرن الماضي، لكانت صُنفت بلا مقدمات، ولا مخارج حروف مألوفة «إرهابية»، من الراكبين والمارين في الشارع، وكل من التقط أنفاسها وهي تردّد: أستغفر الله!
نعم، كانت هذه الفتاة الجميلة، ذات الوجه الملائكي، تردّد طوال الرحلة من موريس أودان إلى المرادية، «أستغفر الله»، التي ينخفض ديسيبالها حدّ التمتمة، ويرتفع أحيانا حدّ الهمس الخفيف، الذي شدّ إليها عددا من الراكبين، المنبهرين، ليس من استغفار فتاة جميلة، غير متحجبة، ولا منقبة.. بل من فتاة «متبرجة» في نظر كثيرين يرجّحون الشكل على المحتوى، والظاهر على الباطن، و»المتعارف عليه» على الحقيق والواقع..
لكن الدهشة انقشعت من عقول بعض من كانوا يلاحظونها، بمجرد ما ردت هاتفيا على متصل بها، بلغة فرنسية باريسية، تُخبر بمدى تمكُنها من هذه اللغة، التي لم تمسح منها ما زرعه والداها، في الصغر..
وبين الصورتين في القصة، تقفز صورة مواطنة، من زاوية ثالثة، لا يراها من تعودوا الضغط على زناد اللغة في «حروب هوية»، تغذيها الأحكام المسبقة، وباريس بشكل خاص منذ 1920..