«سيبويه» الصحافة الجزائرية..
فضيلة بودريش
رحل الزميل الفقيد مختار سعيدي، أحد أبرز رؤساء التحرير الذين مروا بجريدة «الشعب»، وأحد أبنائها الأوفياء المتمرّسين الذين لم يدخروا جهدا بأقلامهم في الدفاع عن استمرارية ورقي هذا العنوان العريق.
الأستاذ مختار أو «سيبويه» الصحافة الجزائرية، مثلما كُنت ألقبه وأمازحه عندما يتفوق على الجميع في قواعد اللغة العربية، رحل فجأة ومن دون أن يُـمهلنا لحظة لوداعه، تاركا وراءه بصمة قوية في أرشيف الجريدة، وبمهنيته أثرا راسخا في نفوسنا، وفي نفوس إعلاميين احتكوا به وفتح لهم بتواضع وصدق أبواب الجريدة وفرص التكوين الثمينة.
كانت أصعب وأمر مكالمة هاتفية تلقيتها في صباح ذلك الخميس، الذي كنا نستعد فيه للاحتفاء باليوم الوطني للصحافي، كان يوما حزينا شبيها بكآبة فصل الخريف الشاحب، استيقظت فيه على مكالمة هاتفية مبكرة تلقيت فيها خبرا قاسيا ومفجعا، تمنيت لو لم يكن صحيحا، «مختار سعيدي في ذمة الله».. جاء الصوت خفيضا متقطعا مترددا.. وكرر العبارة إثر دهشتي: «نعم لقد رحل مختار متأثرا من شدة المرض بمستشفى مصطفى باشا هذه الصباح».. رددت «الله أكبر»، إذا الخبر صحيح عبر مختار إلى الدار الباقية، تألمت بصمت جارح من فقدان أبدي، لمختار الزميل والإعلامي المحترف، في وقت كنا نتوق للاستفادة من محطات مساره الثري وخبرته الطويلة. إنه الصحافي المخضرم الذي كان مسكونا بالسياسة وبالشأن المحلي.
هكذا عرفت مختار سعيدي الذي كان يتقاسم معي بصدق نجاحاتي الإعلامية ويساند من دون تردد قلمي الهاوي في بداية مساري الإعلامي.
أول لقاء جمعني بالفقيد كان نهاية عام 2000، ومنذ ذلك الوقت كنا نتقاطع في العمل ونتطابق في الجودة والجدية، ونختلف في الآراء، وعندما صار مسؤولا كان يشجع الأقلام المتميزة، يدفع بالكفاءات الشابة نحو الأمام، يتعاطف حتى مع من يختلف معهم في التصور والتوجه، ويقول فيهم كلمة حق، لم يكن يميز بين صحافي وآخر إلا بالتفوق الاحترافي.
يمكنه من قراءة أول مقال لأي وافد جديد للجريدة إطلاق حكم صحيح وتقديم تقدير غير قابل للخطأ.
كنت أستعين بالراحل في صياغة العناوين وفي انتقاء الشخصيات التي أحاورها، وأطلعه على ملفات التحقيقات، التي كنت أجريها لأنني أعي جيدا أنها محفوفة بالمخاطر، ولأقلل من احتمال المتابعات القضائية مستعينة بنظرته الخاصة.
لم تفقد جريدة الشعب وحدها أحد أفضل الأقلام بل المشهد الإعلامي الوطني كله، تلقى خسارة كبيرة في رحيل شخصية إعلامية صعب أنها تتكرر، إعلامي يقارب عمره منتصف العقد السادس، كان بإمكانه أن يُكوّن مزيدا من الأجيال الصاعدة في تخصص الإعلام. هذا التخصص الذي كان يشغل باله على حساب تخصصه الأصلي في الحقوق، وكثيرا ما يستعين به أساتذة الإعلام أحيانا لإلقاء محاضرات وتقديم معلومات عن خفايا الصحافة على أرض الواقع.
بعد إحالته على التقاعد، كنت على تواصل دائم معه، أجده مرحا ينشر الفرح حيث يتواجد، لا يشتكي من مرضه الذي كان يخبئه وراء حبه لأسرته وارتباطه الشديد بابنته. قاوم مختار المرض الماكر، مثلما قاوم قساوة مهنة المتاعب دون أن يشكو ظلم ومرارة هذا الثنائي، وبوفاته فقد المشهد الإعلامي قلما مخضرما شجاعا وجادا، وفقدنا بألم زميلا عزيزا في وقت مبكر.. فوداعا الأستاذ مختار… ووداعا «سيبويه» الصحافة الجزائرية.
رجل التوازنات
خديجة طاهر عباس، رئيسة تحرير بالتلفزيون الجزائري
«عرفته نهاية الثمانينيات في المقر السابق لجريدة «الشعب» بحسين داي، كان مكتبه يقابل مكتبي.. عرفته رجلا طيبا يشهر أفكاره ومواقفه دون تحفظ أو خوف، لا يقبل الوقوف في نقطة الوسط أو كما يقال إمساك العصا من الوسط. وعند إلحاق الجريدة بحزب جبهة التحرير الوطني، خاض مختار، رحمه الله، مجال الكتابة بقوة لإبراز مواقفه وأفكاره، وكتب أيامها عن الأغلبية الصامتة التي رجحت كفة الانتخابات آنذاك حسب رأيه..
مختار الصحفي كان قلمه متمرسا.. مختار المسؤول كان يصنع التوازنات حيث يعجز الآخرون.. أما مختار الإنسان، فقد كان الرجل الطيب أو الشجاع. أتذكر أيام الانفلات الأمني بقي يقيم في الشراربة في عز التدهور الأمني، كنت أرافقه ومجموعة أخرى من العمال مع السائق إلى بيته، فقد كانت الطريق محفوفة بالمخاطر، كنا نعبرها بشق الأنفس.. الرعب بعينه وآخر مرة مررنا بنفس الطريق، كان الوضع الأمني متأزما، فنصحته أن يترك المكان وفعل.. كان نعم الجار بسيدي فرج هو وعائلته الكريمة.. ربي يصبرهم.. وعندما نصب مسؤولا على رأس جريدة الجمهورية.. كنت على اتصال به، وكان يحكي لي عن رغبته في تطوير الجريدة ولا يخفي وجود بعض العراقيل التي واجهها.. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه».
رجل ملتزم مهنيا ومتسامح أخلاقيا
سعيد بن عياد
يعدّ الزميل رفيق الدرب في مهنة المتاعب، مختار سعيدي، الذي التحق ببارئه في اليوم الوطني للصحافة، بعد أن نال منه الداء الذي قاومه بصبر إلى آخر رمق، من تلك الثلة المثابرة التي قدمت الكثير من منبر جريدة «الشعب».
طيلة أكثر من ثلاثة عقود كنا نلتقي يوميا في معركة إنتاج المادة الإعلامية. عرفت الفقيد، خلال الثمانينيات محررا في القسم الوطني، ثم تكفل بصفحة بريد القراء التي كان يوليها أهمية، بمتابعة من خلال معالجة رسائل المواطنين المحملة بمشاكل وشكاوى موجهة إلى مختلف السلطات والهيئات. كان يعتبر تبليغ صوت المواطن مسألة في صميم الاتصال، ليعلم المسؤول ما يدور حوله ويطمئن المواطن على وصول ندائه أملا في حل مشكلة او تلبية طلب او رد ظلم.
في ذلك الوقت، كان العمل بالقلم والورق، يراجع الرسالة ويصححها دون مساس بالمضمون ويتوجها بعنوان يعطيها قوة إثارة عسى أن تحرك الضمير الحي.
لما انتقل العنوان الى جبهة التحرير الوطني بقيادة الراحل عبد الحميد مهري، كإرث تاريخي غداة تخلي الحكومة بداية التسعينيات عن الصحف العمومية، تحت تداعيات شروط صندوق النقد الدولي، كان المرحوم سعيدي ضمن الفريق، قليل العدد، الذي اختار البقاء في العنوان وخوض تجربة جديدة، وتميز بأداء صحفي نوعي في المقالات التحليلية والتعاليق الصارمة، ما كان يثير غضب طرفا وارتياح آخر.
في إحدى المرات كتب مختار تعليقا قويا حول الوضع السياسي يومها، كانت أزمة سلطة عميقة، وطلب مني إبداء الرأي، قلت له تنقص بعض التوابل فزاده حدة. لم يكن أحد ينتظر أن المقال سيثير انزعاج السلطة القائمة حينها، ليجد مختار نفسه رفقة رئيس التحرير عز الدين ميهوبي لدى مصالح الدرك الوطني لبئر مراد رايس. واحدث الخبر حالة طوارئ بين الزميلات والزملاء.
كانت حرية التعبير المزدهرة في زمن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في ظل أول دستور تعددي بعد 1989 على المحك. أول ما قمنا به من باب التضامن يومها، التحرك رفقة الزميل محمد مقلاتي على متن سيارته فتوجهنا إلى بيت سعيدي لطمأنة أسرته وتهدئة بال أبنائه وان الفرج غدا. كان دوما يذكر الحادثة غير نادم عن الموقف.
وبعد أيام عاد إلى بيته، كان شديد التعلق بأسرته، خاصة أبناءه، أذكر، حسام وأميرة.
وكانت تلك التجربة بداية مرحلة صعبة بمعنى الكلمة.
وفي خضم الأزمة الأمنية شغل مختار مقعد رئيس التحرير، فأبلى مع الرفاق البلاء الحسن، كل حسب طاقته. كانت تحدث خلافات حول العمل لكن دون ان تفسد للود قضية.
الحقيقة بقدر ما كان الرجل يحرص على العمل بقدر ما كان متسامحا وخفيف الروح. كان صحفيا مناضلا من اجل الحرف العربي ومكافحة البيروقراطية والدفاع عن الدولة، مظلة الجميع بكل التيارات والانتماءات. دافع بقلمه عن المصالحة الوطنية والمدرسة الجزائرية وحرية التعبير، معركة لا تزال إلى اليوم.
في 2012 سعيت إلى أن يتم تخصيص الفقيد والزملاء الذين حافظوا على استمرارية العنوان وبذلوا العطاء للوطن بلا ابتزاز أو مساومة، غير أني لم أتمكن بفعل نفوس مريضة كانت تخشى التاريخ وتعادي جيلا من ذهب بقي في خندق الدفاع عن الكلمة والوطن فعلا لا شعارات، وهي أمنية يحدوني الأمل أن تتحقق اليوم في ظل جزائر جديدة لا تطمس فيها تضحيات جيل بكامله ولا مكانة فيها للتنكر أو الجحود.
آخر مرة زار فيها الجريدة قبل أربعة أشهر، بدا الرجل متعبا يحمل المخ في قلبه صابرا صبورا. تحدثنا عن المسار الطويل بحلوه ومره وشعرت أن الرجل مسامح مع كل ما حصل له، خاصة في فترة قيادته لاحقا، لجريدة الجمهورية وتلك قصة أخرى… رحم الله مختار سعيدي وأسكنه فسيح جنانه.
جرأة الكلمة
محمد نجيب بوكردوس، رئيس تحرير سابق في جريدة «الشعب»
«لم أحتك به إلا مع بداية التسعينيات، عقب التعددية. علما أنه التحق بقاعة تحرير الجريدة عام 1986، وبصرف النظر عن قدرته العالية في الكتابة والاستشراف والتصور والتحليل، يعرف الراحل بصرامته في العمل وصراحته المعهودة والتي ربما خلقت له بعض الحساسيات والحزازات ليس على مستوى الجريدة، بل حتى في بعض الأوساط الإعلامية. وقد كاد بجرأته وشجاعته في الكتابة وإبداء الرأي أن يضحي بمستقبله المهني من أجل إعلاء كلمة الحق وإبداء رأيه بدون مواربة وذلك عندما تم الزج به في السجن في بداية التسعينيات بسبب حديث لراشد الغنوشي.
وخلاصة القول، فقدان مختار الذي تولى إدارة جريدة الجمهورية، التي نجح في إعطائها دفعا قويا بإخراجها من قوقعة الصحيفة الجهوية محدودة إلى انتشار أوسع، سيبقى حيا في نفوسنا ولا أحد ينكر أن له بصمات في الصحافة الجزائرية المكتوبة، وعلى رأسها «الشعب» التي التحق بها عن جدارة واحتضنته بدوره متبوئا منصب مدير التحرير، مما أضفى على محتوى الجريدة حيوية، وأعطى نفسا جديدا في الطرح والتحليل.
وفي موقف لا ينسى، طلب بن زغيبة، مدير سابق لجريدة «الشعب»، رأيه في أحد الزملاء وإن كان يوافقه بأنه غير قادر على تسيير القسم المحلي ومن هو البديل، أجاب الفقيد مختار.. أرجوك أن تعفيني من هذا السؤال. لأن أخلاقي لا تسمح لي بذلك.. وقام بن زغيبة من مكانه وصافحه بحرارة وقال نعم الأخلاق.. رحم الله مختار وأسكنه فسيح جناته».
لا يتسامح مع الأخطاء اللغوية
حامد حمور، رئىس القسم الرياضي
«جاء خبر رحيله بمثابة الفاجعة، مختار سعيدي كما عرفته كان معياره المهنية أولا وقبل كل شيء، دقيق الملاحظة يميز بين الرداءة والجودة كالغربال في وقت زمني قياسي، بالنظر إلى خبرته وإلمامه بعمق العمل الصحفي. المرحوم لم يكن يخطئ في رأيه عن نوعية الكتابات حيث يشجع كل من يرى أنه موهوب ويمنح الفرص للجميع خاصة المتميزين.
لا يتسامح مع الأخطاء اللغوية، يمنح للصحافيين الإضافة ويقاسمهم تعب وضع اللمسات الأخيرة لأعمالهم، وجدّ متفوق في صياغة العناوين ويمنح لمختلف المقالات قيمة تجعلها بارزة.
وفي الجانب الإنساني، وجدناه اجتماعيا يمازح ويداعب الجميع تارة وتارة أخرى يخوض في أحاديث متنوعة المواضيع ويناقش معك كل المسائل، ولا أنسى أنه كان منجذبا ومهتما بالرياضة، وكثيرا ما يخبرني بأنه منذ الصغر كان يتردد على العديد من الملاعب ويشاهد المباريات التي يلعب فيه نجوم سابقون في كرة القدم.
تأثرنا شديد التأثر لرحيل أحد الأقلام المتميزة في جريدة الشعب، حيث كان له عمود يومي يتفنّـن في كتابته ونتابعه باستمرار من خلال أسلوبه الجذاب ولغته القوية».