قال رئيس مجلس الأمة بالنيابة صالح ڤوجيل، في حوار لـ»الشعب»، «إننا حقاً أمام منعرج سياسي وطني بامتياز»، يتزامن والفاتح نوفمبر الذي «سيُخلَّد على أنه يوم يجمع بين مآثر التحرير ونُبل التغيير».
واعتبر ما حدث من فساد سياسي ومالي خيانة لأمانة الشهداء وإساءة لرسالتهم. وفي سياق مغاير، لفت ڤوجيل إلى أن «جامع الجزائر هو رسالة وفاء وتسامح وعنوان «الوسطية» التي شكّلت على الدوام عقيدة الجزائريات والجزائريين».
«الشعب»: الجزائر على موعد مع أهم استحقاق سياسي في أعقاب الحراك الشعبي المبارك، والثاني من نوعه بعد رئاسيات 12 ديسمبر الأخير، ما مدى أهمية هذه المحطة في المرحلة المقبلة؟
صالح ڤوجيل: فعلا الجزائر مقبلة على موعد سياسي متميز.. يشكّل محطة في غاية من الأهمية، لأنه يتعلق بتنظيم الاستفتاء بشأن مشروع تعديل الدستور، وهو الحدث الذي سينظم في يوم تاريخي بالنسبة للشعب الجزائري، حيث وجب التذكير أن الفاتح نوفمبر 1954 شكل تحولا جذريا في تاريخ الجزائر المعاصر من منطلق أنه كرّس اندلاع الثورة التحريرية المباركة التي سمحت للبلاد استرجاع سيادتها واقتلاع استقلالها.
لذلك، يمكن القول إن هذا اليوم يكتسي دلالة رمزية كبيرة جدا، الأمر الذي يجعل إختيار الأول من نوفمبر لتنظيم الاستفتاء قرارا صائبا، سيخلَّد على أنه يوم يجمع بين مآثر التحرير ونبل التغيير، الذي سيسمح للبلاد بأن تعيش تحولاً جذرياً من أجل تجسيد التغيير والمُضيّ قُدُما نحو الجمهورية الجديدة.
بالرغم من انتشار جائحة كورونا وآثارها، إلا أن رئيس الجمهورية حرص على احترام أحد أهم التزاماته 54 متمثلا في مراجعة معمقة للدستور، هل ستكون فعلا جسر العبور إلى الجمهورية الجديدة التي ينشدها الجزائريون؟
**صحيح أن إنتشار جائحة كورونا عطّل نوعا ما المسار المرسوم، إلا أنّ العزيمة بقيت ثابتة وقوية في الوفاء بالتزام إنتخابي أساسي للسيد رئيس الجمهورية.. لذلك، يُعتبر مشروع تعديل الدستور في تقديرنا بمثابة حجر الأساس الذي يستند عليه المشروع الواعد في بناء الجمهورية الجديدة التي ينشدها ويصبو إلى بنائها كل الجزائريات والجزائريين.
وبالعودة إلى مضمون مشروع تعديل الدستور، يتضح جلياً أنه يحمل في طياته الكثير من المؤشرات الإيجابية، التي تدل على وجود إرادة سياسية في إحداث التغيير الجذري في مجالات الحقوق الأساسية والحريات العامة والفصل المتوازن بين السلطات الثلاث وتكريس استقلالية القضاء ومكافحة الفساد وغيرها..
وبالتالي إذا صحّ التعبير فقد بدأ شعبنا الأبي عبوره إلى برّ الجمهورية الجديدة منذ بداية الحراك الأصيل، وما نباشره اليوم هو ثمرة الوعد الصادق للسيد رئيس الجمهورية.
الشعب بدأ عبوره نحو الجمهورية الجديدة منذ بداية الحراك
* كيف يمكن لوثيقة الدستور المطروحة للاستفتاء تزامنا وذكرى الثورة التحريرية المجيدة، أن تشكل منعرجاً في الساحة السياسية والوطنية؟
** أكيد أن اختيار رئيس الجمهورية للفاتح من نوفمبر كتاريخ لإجراء الاستفتاء على تعديل الدستور، لم يكن اعتباطا بل جاء انطلاقا من القناعة الراسخة للسيد رئيس الجمهورية أن الشعب الجزائري له ارتباط تاريخي ووطني بشهر نوفمبر.. لما يحمله من دلالة ورمزية تاريخية، ولمد جسور التواصل بين جيل نوفمبر وهذا الجيل من الجزائريين والجزائريات الذين يطمحون لبناء جمهورية جديدة يسودها العدل والقانون. من هذا المنظور تتضح الصورة بأننا حقاً أمام منعرج سياسي وطني بامتياز.
* تتقدم الجزائر بخطوات ثابتة بعد نجاح الرئاسيات، التي كللت حراكا شعبيا مليونيا قادها إلى بر الأمان، هل يمكن القول اليوم بأنها نجحت أم أنها خطوة أولى فقط تشقها في طريق الجمهورية الجديدة؟
** لقد شكّل انتخاب رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون في الثاني عشر من شهر ديسمبر 2019 محطة أولى في التغيير السياسي في البلاد، وذلك بتكريس الشرعية الدستورية بانتخاب السيد الرئيس..فلقد عبّر الشعب الجزائري حينها بكل حرية وسيادة عن اختياره، وجرت الانتخابات في جو من الهدوء والسكينة واحترام العمل الديمقراطي… وهنا أريد أن أضيف شيئاً، وهو أنّه وللمرة الأولى في تاريخ الجزائر المستقلة يعترف جميع المترشحين لمنصب القاضي الأول في البلاد بالرئيس الفائز في الانتخابات، وتجلى ذلك في حضورهم جميعاً لمراسم تأدية اليمين الدستورية.. وهي دلالة لا ينبغي المرور عليها مرور الكرام.
ثمّ أن مشروع تعديل الدستور، المبادر به من طرف السيد رئيس الجمهورية، بما تضمّنه من أحكام ومقتضيات جديدة.. وهو الدستور الذي سيحتضنه الشعب – بإذن الله – في الفاتح من نوفمبر المقبل، سيكون – بلا شك – الخطوة الأهم في بناء جمهورية جديدة تستجيب لتطلعات المواطنات والمواطنين وآمالهم التي عبّروا عنها خلال الحراك المبارك الأصيل.
إننا أمام منعرج سياسي وطني بامتياز
* ما هي الضمانات المقدمة لضمان ممارسة سياسية أفضل؟
** لو قمتم بقراءة متأنية للأحكام التي تضمنها مشروع تعديل الدستور، لاسيما ما تعلق بإعادة تنظيم السلطات والفصل بينها بشكل متوازن وتكريس مبدأ استقلالية العدالة وأخلقة الحياة العامة وغيرها من المسائل التي نظّمها المؤسس الدستوري، لاتضحت لكم الصورة بأن كل تلك الأحكام تشكل ضمانات دستورية على أن البلاد تتجه فعلا ًنحو غد سياسي أفضل.
لكن يبقى في نظرنا أن ما يترجم بحق وجود إرادة سياسية فعلية في تكريس التغيير لمختلف أنماط الحوكمة بالبلاد وما يشكل الضمانة الأساسية في ذلك، يكمن في المقاربة التي اختارها رئيس الجمهورية بشأن التعديل الدستوري. فالسيد الرئيس المنتخب من طرف الشعب يملك دستوريا كامل السيادة والتفويض كي يختار سبيلا آخر غير ذلك الذي يقضي بإخضاع مشروع تعديل الدستور للنقاش العام، ثم عرضه على البرلمان وأخيرا تقديمه للاستفتاء الشعبي. رغم ذلك وقع إختيار السيد الرئيس على هذا المسار، وذلك من أجل الوصول إلى وضع دستور توافقي، يكون بمثابة الدستور المرتبط بالجزائر ومستقبلها ولا يكون مرتبطاً بشخص واحد أو بمرحلة زمنية محددة.
لذلك، ينبغي الوقوف عند حقيقة هامة وللتاريخ، وهي أن طرح الوثيقة للمرة الأولى للنقاش الواسع في الجزائر يُعَدُ في حد ذاته أمراً إيجابياً جداً وَجَبَ تثمينه، وهو ما يُفيد أيضا بأن السلطة العليا في البلاد أرادت تبيان إرادتها في التغيير من خلال إعطاء الشعب فرصة التعبير عن تطلعاته وأماله بكل سيادة وديمقراطية.
وهنا، يهمني الإشارة إلى أن الوطنية الحقّة بالمفهوم النوفمبري لسنة 1954 تعني التضحية ونكران الذات والوفاء والالتزام… هذه الوطنية في سنة 2020 تعني كل هذا ومعها حتماً قيم وشمائل التفوق والإتقان.. الجمهورية الجديدة ستكون جمهورية التضحيات والوفاء المقرونة بقيم التفوق والإتقان المتوجة بالجدارة من أجل تولي المسؤوليات.
البلاد تتجه نحو غد سياسي أفضل
* ما التحديات المستقبلية للطبقة السياسية من أجل اضطلاعها بدورها؟ وهل بإمكان المجتمع المدني مرافقة الحركية الجديدة؟ وهل الذهاب إلى انتخابات تشريعية ومحلية مسبقة أضحى أولوية؟
** مما لا شك فيه أن مشروع تعديل الدستور يُشكل لبنة أساسية لبناء الجمهورية الجديدة التي يتطلع إليها الجزائريات والجزائريين، وذلك بما يحمله من أحكام جديدة تصب كلها في إطار تكريس مكانة هامة للمجتمع المدني وتمكينه من أداء دور الشريك في اتخاذ القرار وتسيير الشأن العام خصوصاً محليا.
علاوة على ذلك، ثمّة أحكام جد ايجابية تضمنها مشروع تعديل الدستور ترمي إلى تعميق مبدأ التداول الديمقراطي على السلطة ومكافحة الفساد، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، وهي كلها تدابير ومقتضيات من شأنها أن تعزز دولة القانون، وتقوي مؤسسات الجمهورية، وتضمن حقوق المواطن، الأمر الذي يفرض على الطبقة السياسية أن تتكيف مع كل هذه التغييرات.
من هذا المنطلق نقول أنه يتعين على الأحزاب السياسية تجديد نُخبها وقياداتها وفق مبدأ التداول الديمقراطي داخليا، كما أضحى لزاماً عليها تحيين مضامين برامجها وخطابها السياسي وفق ما يتطابق مع ديناميكية التغيير السوسيو- سياسية التي تعيشها الجزائر، أما عن المواعيد الانتخابية المستقبلية، فمباشرة بعد تزكية الشعب للدستور الجديد، ستلج الجزائر مرحلة استكمال البناء الهرمي المؤسساتي على المستويين المركزي والمحلي، كما ستشهد تكييفاً شاملا لترسانة قوانينها مع الدستور الجديد، من ذلك مثلاً القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات، الذي نصّب بشأنه السيد رئيس الجمهورية، اللجنة الوطنية المكلفة بإعداد مشروع مراجعته… ليليه فيما بعد باقي القوانين ذات الصلة بالحياة السياسية والاجتماعية وقوانين أخرى.
كل ذلك سيمهد بالطبع وكتحصيل حاصل لانتخابات تشريعية ومحلية سيحدد رئيس الجمهورية تاريخها في حينه… لكن تبقى أهمية هذه المواعيد أنها ستسمح – إن شاء الله – بتكريس فعلي وتجسيد عملي للمقتضيات الدستورية الجديدة التي تبغي التأسيس للجمهورية الجديدة عبر التمكين للأجيال والنخب الجديدة من خلال توفير الأدوات والأسباب التي ستُفضي حتماً إلى تجديد الطبقة السياسية وتفسح المجال لانخراط الشباب الجزائري في العملية السياسية.
* خرج الجزائريون في الحراك الشعبي المبارك، مطالبين بالتغيير وبناء دولة الحق والقانون على أساس مبادئ أول نوفمبر، بسبب انحرافات في ممارسة الحكم والتفرد به، هل يمكن القول أن جرائم الفساد السياسي والمالي التي عرفتها البلاد في السنوات الماضية إساءة لرسالة الشهداء وتخلي عن أمانتهم ؟
** نعم، ما حدث من فساد سياسي ومالي خيانة لأمانة الشهداء وإساءة لرسالتهم…فالحراك المبارك الأصيل جاء للتعبير عن تطلعات الشعب القوية للتغيير ورفض الممارسات السلبية التي ميّزت السنوات الأخيرة، لهذا السبب تضمن مشروع تعديل الدستور ما يفيد التأكيد على المرجعية النوفمبرية والوفاء للقيم الموروثة عن الشهداء من جهة. ومن جهة أخرى يبين مشروع تعديل الدستور النية الصادقة والإرادة القوية لتجنب كل انحراف في المستقبل من خلال إعادة توزيع السلطات داخل السلطة التنفيذية ووضع ضوابط وتوازنات فعالة مُصممة لتجنب أي ّانحراف استبدادي.. وعليه، فخلاص الجزائر هو العودة إلى روح الدولة الوطنية.. دولة الحق والنزاهة والالتزام.. دولة العدالة والقانون..
وصحيح أيضًا أنّ كل الانحرافات والممارسات الخاطئة للحكم كانت مخالفة لرسالة الشهداء الأبرار والمجاهدين الأخيارالذين ضحوا بالنّفس والنفيس من أجل أن تعيش الجزائر حرّة، سيّدة وأبيّة، ويعيش الشعب الجزائري في ظل دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات وليست دولة الأشخاص، دولة اجتماعية بامتياز، تلكم كانت رغبة وأمنية رعيل الثورة وجيل نوفمبر؛ وكان هذا واضحًا منذ البداية في نداء أوّل نوفمبر 1954 إلى الشعب الجزائري، الذي حدّدت أهداف الثورة في بناء هذه الدولة وتحقيق الرفاه والعيش الكريم للشعب الجزائري الذي تجرّع المآسي والآلام والمصائب والمجازر والمحن والحرمان من كلّ شيء طيلة فترة الاستعمار البغيض لأكثر من قرن وربع قرن!! فهناك العدالة التي تعزّزت مؤخرًا بمجموعة من الأحكام القانونية الجديدة باعتبارها ميزان الدولة..
* تميزت هذه السنة باستعادة رفات قادة المقاومات الشعبية في عيد الاستقلال، ومحاولات حثيثة لتسوية نهائية ومقبولة لملف الذاكرة، كيف تقيمون ما أنجز لحد الآن؟ وما المطلوب إنجازه مستقبلا؟
** لطالما شكّلت ملفات الذاكرة المرتبطة بالحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر الممتدة ما بين 1830 إلى 1962، متغيرا هاما بين البلدين، ومسألة الذاكرة بالنسبة لنا كجزائريين هامة وأساسية من منطلق أن الشعب الجزائري دفع ثمناً باهظا قصد استرجاع حريته واستقلاله، الأمر الذي يجعل هذه المسألة ذات أولوية لدى مختلف مكونات الشعب الجزائري ويشكل قيمة معنوية متوارثة عبر الأجيال..
وعليه، أُثمِّن عاليا استجابة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لمطلبٍ عمره 58 سنة والقاضي باسترجاع رفات وجماجم زعماء المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي، الموجودة بمتحف فرنسا، حيث بعد كلّ هذه السنوات استرجعها السيد رئيس الجمهورية وهي خطوة من الخطوات التي سترغم فرنسا على الاعتراف بجرائمها، وما هذه إلاّ خطوة أولى يجب أن تتبعها خطوات أخرى، ونحن متمسكون بهذا.
وأن الحدث الكبير لم يكن ليتأتى لولا الجهود الوطنية الرسمية والأكاديمية المضنية.. وهنا أحب أن أؤكد أن الاهتمام بالذاكرة لبنة أساس من أجل تجاوز عثرات الماضي والحاضر، والتوجه بخطى واثقة لمستقبل نحسبه واعداً إن شاء الله تعالى…
ومن هذا المقام، أودّ الإشادة بقرار رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، القاضي باعتماد تاريخ 8 ماي يوماً وطنيا للذاكرة، وقد صادقنا عليه بمجلس الأمة في 30 جوان الماضي، كما أنوه بإطلاق قناة تلفزيونية وطنية خاصة بالتاريخ والذاكرة في الأيام القليلة القادمة، بمناسبة الاحتفاء بالذكرى 66 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة…
* هناك عقيدة سياسية لدى بعض الأوساط الفرنسية (لوبيات) تزعم أن بناء علاقات طبيعية مع الجزائر يتحقق برحيل جيل الثورة عن الحكم.. كيف تردون على هذه الأصوات الحاقدة؟
** العلاقات الثنائية الجزائرية الفرنسية في جميع صورها وتجلياتها تستوجب – اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى – مراجعة شاملة على جميع المستويات… ذلك أن العلاقات الثنائية بين البلدين ظلت منذ الاستقلال رهينة أولئك الفرنسيات والفرنسيين الذين رفضوا على الدوام فكرة استقلال الجزائر، وعملوا بعد عودتهم إلى فرنسا على كبح وعرقلة أيّ تطور حقيقي وفعلي يخدم الشعبين، حيث تحولوا إلى لوبيات وأحزاب وجمعيات ومنابر إعلامية تتحرك في حينه ضد أيّ مؤشرات توحي بتحسن العلاقة بين البلدين، بل في غالب الأحيان والأوقات وفي مختلف الحقب عملت وتعمل ضد هذه العلاقة…
وهنا، أريد أن أوضح أمراً بأن الشعب الجزائري حرص على التمييز دائماً بين الاستعمار الفرنسي (الكولونيالية) والشعب الفرنسي، وذلك منذ سنوات الثورة التحريرية…
أعتقد أن الوقت قد حان لنضع على الطاولة كل المواضيع التي تشمل علاقاتنا الثنائية، ولكن بشرط أن نتحدث بصراحة…، ومن المهم أن تشمل هذه المحادثات التي نريدها صريحة وشفافة مواضيع التاريخ والذاكرة، العلاقات الإنسانية (والتي تبقى علامة هامة ومميزة)، العلاقات الاقتصادية والتجارية، العلاقات السياسية، مواقف الطرفين بالنسبة للمسائل المطروحة إقليمياً وقارياً، خصوصاً في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ماحدث من فساد سياسي ومالي خيانة لأمانة الشهداء
* التاريخ يكتبه المنتصر في الحرب، والجزائر انتصرت في ثورتها ضد الاستعمار الغاشم، ألا يشكل هذا قاعدة صلبة تمنح الجزائر الأحقية التاريخية والأخلاقية لفرض رؤيتها في معالجة ملف الذاكرة مع فرنسا؟
** كتابة التاريخ ليس أمرًا سهلاً أو بالبساطة التي قد نتصورها؛ فكتابة التاريخ حسب المختصين هي ثلاثة أصناف أو أنواع: كتابة رسمية تكتبها مؤسسات الدولة، وكتابة أكاديمية يكتبها المؤرخون والباحثون والأساتذة المختصون، وكتابة شعبية يكتبها الأفراد سواء كانوا مجاهدين أم شهود عيان وغيرهم في شكل مذكرات، روايات، قصص وما إلى ذلك؛ وكلّ هذه الكتابات تلتقي مع بعضها البعض وتُكمِّل بعضها البعض في تسجيل وتقييد تاريخ وذاكرة الأمّة؛ وهذا يتطلب وسائل وإمكانات وسندات ووثائق وأرشيف، وكلّ طريقة لها منهجيتها وأدواتها الخاصّة بها، كما يتطلب أيضًا وقتا طويلا.
صحيح أنّ هناك اليوم تباشير جيّدة لهذا العمل الجبّار، عملا للتاريخ والذاكرة، نلاحظها في الميدان، سواء من طرف مؤسسات الدولة من معاهد ومراكز بحث ودراسات، أو ما تقوم به وزارة المجاهدين من خلال متحف المجاهد أو المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أوّل نوفمبر 1954 وغيرهما، ضف إلى ذلك ما يقوم به المركز الوطني للأرشيف؛ ودعمًا لهذا المجهود وسعيًّا نحو تكفّل أكثر نجاعة بملف الذاكرة بيننا وبين فرنسا جاء تعيين السيد رئيس الجمهورية لمستشارٍ خاص بهذا الملف في شخص مدير الأرشيف الوطني مثلما قام الرئيس الفرنسي بتعيين مستشار خاص أيضا بهذا الملف في شخص مؤرخ وباحث معروف ومهتم بقضايا التاريخ والذاكرة بين بلده والجزائر.
إذن، هناك اليوم إرادة سياسية حقيقية لمعالجة هذا الملف بهدوء وبعيدًا عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية والخلفيات التاريخية، الأمر متروك لذوي الاختصاص، علينا فقط منحهم الوقت الكافي وتمكينهم من وسائل عملهم وبحثهم لاسيما فتح الأرشيف لتدوين التاريخ المشترك بكلّ موضوعية.
* ما هي الرسالة الحضارية التي توجهها الجزائر للعالم، بتدشينها جامع الجزائر في المولد النبوي الشريف، وفي ذكرى الفاتح نوفمبر ؟
** شكّلت زيارة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون للمسجد الأعظم خلال شهر أوت الماضي، وإعلانه تدشين هذا المعلم التاريخي الإسلامي، بمناسبة ذكرى الفاتح نوفمبر، حدثًا بارزًا ومميّزًا يحمل أكثر من دلالة؛ كما أنّ تقديمه لتاريخ تدشين قاعة الصّلاة إلى ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف يحمل هو الآخر أكثر من مغزى.
إنّه من حسن الصنيع أن تتوافق وتتزامن الأمور المهمّة في حياة الشعب الجزائري مع مرجعيته الوطنية وتاريخه وماضيه البطولي ومع مرجعيته الدينية، لأننا عندما نربط حاضرنا ومستقبلنا مع الماضي وموروثنا الديني والحضاري، فهذا هو ضمان مستقبل البلاد.
فالإسلام كان مستعمرا مثل جميع البلاد، فمثلما استعمروا البلاد والعباد استعمروا كذلك الدين، ونتذكر جميعا مطلب بن باديس رحمه الله بفصل الدين عن الحكومة، لأن خطبة الجمعة التي كان تلقى في المساجد كانت تكتب من طرف السلطة الفرنسية، وعلى هذا فعندما سندشن هذا المعلم يوم الفاتح من نوفمبر فلأن له صلة مباشرة مع تاريخ الإسلام في الجزائر فنوفمبر حرّر البلاد والعباد والدين، كما قال السيد الرئيس: «نحن نوفمبريون»؛ ثُمّ إن تدشين قاعة الصّلاة لجامع الجزائر في ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف له أيضًا مغزى آخر، فهو يرتبط مباشرة بمرجعيتنا الدينية الوطنية ويدل على مدى وقوة ارتباط الشعب الجزائري بدينه الإسلامي الحنيف فمثلما أكّد عليه نداء أوّل نوفمبر 1954، فهو دين الدولة، والدولة هي دولة الجميع، وكرّست كلّ دساتير الجزائر هذا المبدأ، منذ دستور 1963؛ كما أنّ ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف تحظى بمكانة خاصّة عند الشعب الجزائري بحكم تعلّقه الشديد بحامل رسالة الإسلام إلى الإنسانية جمعاء، محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم.
كما ينمّ هذا التدشين عن البُعد الديني والحضاري للجزائر ويؤكد انتماءها للأمة الإسلامية من خلال هذا الصرح الديني الذي يُعدّ مكسباً كبيراً للجزائر.. كما أن موقعه وعمرانه الشامخ في ساحل مدينة المحروسة وبمنطقة المحمدية بالعاصمة يحمل كل دلالات الوفاء للشهداء خلال جميع حقب المقاومة التي توجت بثورة نوفمبر الخالدة.. وكمجاهد فإني لا أجد المفردات التي تفي بالتعبير عن سعادتي واعتزازي بهذا الإنجاز وصوابية تاريخ تدشينه في هذا اليوم الأغر، والذي تزامن أيضاَ مع ذكرى ميلاد خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم… جامع الجزائر هو رسالة وفاء وتسامح وعنوان «الوسطية» التي شكّلت على الدوام عقيدة الجزائريات والجزائريين، وعليه فإني أهنئ الشعب الجزائري والعالم الإسلامي بهذا الانجاز.
* ما هي الكلمة التي توجهونها عبر جريدة الشعب للجزائريين عشية استفتاء الفاتح نوفمبر؟
** أود أن أتقدم بتهاني الحارة إلى عاملات وعمال يومية الشعب.. هذه اليومية العريقة التي تحمل إسم جريدة تداولها الشعب الجزائري في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي باسم الحركة الوطنية، وقد كان ذلك لفترة وجيزة قبل أن يحجبها الاستعمار الفرنسي… جريدة تستند إلى رصيد تاريخي وإرث نضالي كبير… لما تمثله من رمزية في المجال الإعلامي ولاعتبارها كذلك منبراً من منابر الحرية… كما أغتنم هذه السانحة لأنحني إجلالاً أمام أرواح شهداء الكلمة ومهنيي الصحافة على العموم ولشهدائنا الأبرار وشهداء الواجب الوطني…
نحن بحق مع موعد كبير يوم الفاتح نوفمبر وهي مناسبة تشكل في تقديرنا بداية حقيقية لإرساء قواعد دولة القانون وبناء دولة تتعمق فيها الممارسة الديمقراطية لتُثمر دولة لجميع الجزائريات والجزائريين، وكما قلتها سابقا دولة للجميع وتحتضن الجميع مهما كانت الإختلافات «ذاخام انغ أكل»، دولة تتأسس على الثقة بين الحاكم والمحكوم وتقوم على ثقافة التداول السياسي.. لنكن إذن جميعا مجندين في هذا الموعد التاريخي والذي أعتبره يوماً آخر من أيام الوغى النوفمبرية.. ولنصوت بنعم من أجل التغيير.. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار، وتحيا الجزائر شامخة ومزدهرة.