أحرق «الربيع العربي» دولا وفكّك الصّفوف والمواقف العربية، فتقهقرت أهمية القضية الفلسطينية التي احتلت طيلة عقود طويلة جوهر وصدارة الاهتمام من حيث أولوية الدعم والمساندة، بسبب إعصار الربيع العربي القاتم الذي أخّر ترتيبها من أجندة السياسات الخارجية، لأن دمار ونيران الحروب التي فتكت بسوريا وحطّمت ليبيا وسرقت الأمن والاستقرار من العراق واليمن، غيّرت من المواقف التقليدية التي لم تكن تقبل أي مساومة أو تنازل، فكانت فلسطين والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني المسلوب من أرضه وحريته، القضية المركزية لدى الشعوب كما الحكام.
فلسطين كانت تجمع بين المواقف وتوحّد الصفّ ويتقاطع حولها الصوت العربي، فلم تكن معزولة أو وحيدة في صراعها المضني مع الصهاينة، لكن في ظل التحول السريع الذي قذفت به معاناة المنطقة العربية، تغيرت المعطيات بمستجدات أربكت وأضعفت العرب، فلم تعد القومية العربية حائطا منيعا يصدّ محاولات إعادة رسم خرائط الصراع، بما يجعل إسرائيل الأكثر تفوّقا بل في مفارقة لم تكن منتظرة، مفارقة جعلت منه «جارا»طبيعيا تسارع الدول العربية لإقامة العلاقات معه قبل تسوية منصفة للشعب الفلسطيني.
الرؤية المشتركة التي تقاسمها الحكام العرب في العقود السابقة، صارت في مهب الريح وفصلا من أمجاد الماضي.. لم تعد فلسطين تجمع ولم تصبح العلاقات مع الكيان الصهيوني مخجلة تتم في سرية عبر قنوات خفية، والأقسى من كل ذلك أن الأعين انفتحت على مفاجأة التطبيع الإرادي، فيما فضّل البعض الآخر التمسك بسلسلة من الشروط القائمة على مبادئ مبادرة السلام العربية، كشرط لقبول أي خيار للتطبيع، لكن من يعرف إسرائيل عن قرب أو بعد يدرك بأنها تفتح ذراعيها بمكر تماما كمن يدس السم في العسل، أي لتبسط سطوتها على مستقبل منطقة المشرق العربي وتكون الآمر الناهي، في وقت أصبحت مع كل خطوة تطبيع تشعر بنشوة انتصار، أثمن من تلك التي حققت في حروبها.. فماذا تخبئ إسرائيل في مسار «موضة» التطبيع؟.