تتقاطع في هذا اليوم التطلعات المتجددة مع الذاكرة الأصيلة، النقية، عنوانها، أول نوفمبر 1954، الذي صحح، بتضحيات هي مفخرة للأجيال، مجرى التاريخ، فوقّع القطيعة التامة مع الاحتلال الذي سعى بكل طرق الاستعمار الغاشم إلى تكريس واقع مزيف لم يصمد أمام إرادة الشعب الجزائري بقيادة نخبة وطنية من المناضلين أسسوا لجزائر تقف اليوم مرة أخرى أمام محطة مصيرية، ليجدد الخلف عهده مع السلف حول نفس الروح وذات القيم، ذخيرة الأجيال ومنبع التزود بالقوة لتجاوز كل المحن والتحديات مهما عظمت وتعقّدت.
ليس هناك من محطة ناصعة في تاريخ الشعب الجزائري مثل هذا اليوم الأغر، الحامل لأروع ملحمة حققت أهداف السلف الصالح من المقاومة الشعبية، لينجز مشروعا شاملا فاتحته استرجاع السيادة الوطنية وكسر أغلال الاستعمار الفرنسي بتجاوز مرحلة الخوف وكسر الصورة النمطية المصطنعة من مخابر جيش الاحتلال الملطخة بالدماء الزكية، وصاغتها مراكز التعذيب، التي استوحت مناهج النازية وتسترت عليها أداوت سلطة إدارية وعسكرية واقتصادية، مدعومة بفلول الكولون وعائلات من الحركى، تجمعت فيها عصارة العنصرية.
صحيح الديمقراطية تعكس اختلاف الرؤى وتباين المواقف، لكن لا تعني أبدا بأي شكل من الأشكال الاختلاف حول الرصيد التاريخي، مضرب المثل لدى الشعوب الحرة ورمز فخر الأجيال وبوصلتها، في خضم عالم تنبعث منه رائحة استعمار جديد لا يعطي فرصة للمترددين من البلدان الناشئة ويباغت الشعوب التي تدير ظهرها لماضيها، ما يستدعي من كل مواطن مهما كان موقعه تقديره بشكل دقيق للرهانات لنكون في موعد مع من قدموا النفس والنفيس ثمنا للحرية والسيادة.
من هذه الحقيقة، كان لزاما أن يكون للتاريخ بكل فصوله وأساسا ثورة التحرير المجيدة مكانته اللائقة لدى المواطن، على مستوى الفرد، الأسرة، المدرسة، الطبقة السياسية والحزبية بكل تنوعها الايديولوجي والفكري، وهو أقل ما يمكن تقديمه عرفانا لأولئك الأفذاذ الذين كتبوا التغيير بدمائهم ولا يعز اليوم رسم نفس الملحمة لإنجاز التغيير بالسلوك المتمدن الحضاري في كنف الحرية والسيادة، مصدرها الشعب لا غير.
إنه التغيير الذي حمله الحراك في نسخته الأصلية فأعاد تصويب الاتجاه قبلة أول نوفمبر، منهيا بسلمية راقية مغامرة قادتها عصابة أضحت خارج المعادلة وأدواتها من قوى التعطيل تفقد آخر أنفاسها، ذلك أن مسار التغيير يقود حتما إلى استكمال مسعى بناء جزائر جديدة من بوابة إرادة شعبية تشمل كافة المؤسسات والسلطات، يسود فيها القانون النابع من برلمان منتخب بنزاهة وتختفي بذلك لوبيات الفساد، الذي يتقاطع في نتائجه مع الواقع الذي ثار ضده آباؤنا وأجدادنا حتى تحقق الهدف، ليستكمل اليوم.