مـــاذا بعــد الاسـترقـاق والاسـتــنــزاف؟
مساهمة الثورة الجزائرية في حركات التحرير الوطني الإفريقي
تتميّز الجزائر في الفضاء المغاربي، وحتى العالم العربي بوجه عام، بعمق جغرافي وتاريخي وتواصل بشري مع القارة الإفريقية، وخاصة جوارها لعدد من بلدان الساحل وغرب إفريقيا، فضلا عن علاقاتها المتميّزة مع جنوبها فقد ساهمت في تحريرها من الميز العنصري بتشجيع وحماية المناضلين ومساعدتهم ماديا ومعنويا للاُنتصار على الأبارتايد، والوقوف إلى جانب نبجيريا ودعم وحدتها الوطنيّة بمنأى عن التكتلات الحزبية أو المجموعات الإثنية ولم تطلب أي مقابل لهذا الدعم والمساندة.
وهو أيضا نفس الموقف والدّعم لجمهورية الكونغو الديموقراطية التي تعرّضت للتدخّل الأجنبي لفرض الوصاية عليها وتنصيب عملاء مثل موبوتو سيسيكو وتشومبي الذي كان مجرّد «حركي» مكلّف بتمكين الدول الكولونيالية السابقة من نهب ثورات الكونغو في مقاطعة كاتانغا وإنشاء محميّة تحت النفوذ المباشر لبلجيكا وحلفائها في أروبا ووراء الأطلسي.
الجزائر هي البلد الوحيد في شمال القارة الذي له حدود تزيد على سبعة آلاف كيلومتر مع جواره المغاربي والإفريقي وهو ما يتطلب حضورا سياسيا ودبلوماسيا وأمنيا لحماية التراب الوطني من أي تهديدات محتملة عبر حدودها، وخاصة من تسلّل العصابات الإرهابية وتجّار المخدرات وبعضها يتغطّى بالهجرة غير المنظمة أو غير الشرعيّة عبر كل الحدود الشاسعة من جنوبه إلى وسطه وشماله.
بالإضافة إلى الدعم غير المشروط لحركات التحرير في القارة الإفريقية ومساندتها للقضايا العادلة على المنابر الدولية، فقد تواصل ذلك الدعم بمسح ديون تلك البلدان والإسراع لمساعدتها عندما تتعرّض لكوارث طبيعيّة، وهي أيضا المبادر بمشروع النيباد وطريق الوحدة الإفريقية.
وقد دأبت الجزائر منذ السبعينيات بتخصيص حوالي ألف منحة دراسية سنوية في مؤسسات التعليم العالي ومعاهد وكليات التكوين العسكري والشرطة والأمن والطاقة والشؤون الدينية وقد تخرّج من كلّ تلك المعاهد ما يزيد على 60.000 من الإطارات والتقنيين السامين وقد شغل بعضهم مناصب عالية في دولهم.
هناك بعد آخر روحي لا يحظى بالاُهتمام إلا في مناسبات عابرة هو المشيخة التيجانية والقادرية وإلى حد ما السنوسية (ليبيا) وكلّها لها حضور فاعل في شؤون المجتمع والسياسة.
إنّ لإفريقيا جنوب الصحراء علاقات تاريخية وروحية متغلغلة في كلّ مجتمعاتنا بأصلها أو منبعها في الجزائر من وادي النيجر إلى سوكوفو في نيجيريا، وقد كنّا شهود عيان لما يحظى به شيخ الطريقة التيجانية من احترام في ندوة دعت اليها اليونسكو حول الثقافات الأصلية سنة 2004 في داكار، حيث رافقنا وزير التعليم العالي السينغالي لزيارة تبرّك للشيخ الذي أوصى بتبليغ سلامه ودعواته للمنتسبين للطريقة التيجانية في العالم، وبالخصوص : اخواني في الجزائر.
من الناحية الإيديولوجية ظهرت في الساحة الإفريقية ثلاث تيارات تزامنت مع حركة التحرر العالمي وهي:
1- تيار القومية الإفريقية
(Panafricanisme) ومن بين دعاته كوامي نيكروما في غانا، وأحمد سيكوتوري في غينيا وباتريس لومومبا في كينشازا الكونغو الديموقراطية حاليا.
ومن بين المبادرات التي ولدت ميّتة اٌقتراح كوامي نكروما إعادة توزيع جغرافيا غرب إفريقيا حسب عائلاتها اللغوية الكبرى وهي:
– السواحيلي
– الهوسا
– الماندينغ
– الفولاني
ومن المعلوم أن القيادات السابقة وكل مشاريعها للتحرر من قبضة الكولونيالية تمّ القضاء عليها عن طريق اٌنقلابات نظمتها اليد الظاهرة والخفيّة للقوى المهيمنة عل القارة السمراء منذ عدّة قرون، بل عمدت إحدى القوى وهي بلجيكا إلى تقديم درس للقادة الأفارقة وهو التمثيل بأحدهم باتريس لومومبا في شوارع كنشازا.
2- تيار الزنجية (La Négrétitude) وفي مقدّمة ممثليه ليوبولد سينغور المعروف باٌسم الرئيس الشاعر، وهذا التيار على العكس من سابقه فقد قدّم الولاء المطلوب لفرنسا، وكان الناطق باٌسم الفرنكوفونية في كلّ غرب إفريقيا، ومن المعروف أن الفرنكفونية تيار ثقافي سياسي اٌقتصادي ينافس الأنغلوفونية أو على الأصح يحمي مصالح فرنسا في غرب القارة وحتى خارجها وقد اٌختارت بريطانيا عنوان الرفاهية المشتركة(Common wilth) للاحتفاظ بمصالحها في الاٌمبراطورية التي أعطتها وصف العظمى.
3- تيار تنمية الثقافة الوطنيّة، ومن بين ممثليه المدافعين عن الخصوصيّة الثقافية الإفريقية الأستاذ أنتاديوب والمفكّر السياسي ج.كزيربو وريتشارد رايت (R.Wrigt) وإيمي سيزار، وقد نشر هذا الباحث دراسة ميدانية بعنوان حوارات مع كتّاب أفارقة 1992 (TalkingwithAfrican) ومن بين نتائج هذه الدراسة: أن القارة الإفريقية هي من بين أكثر القارات التي تتميّز بالهوة الكبيرة التي تفصل بين النخب المثقّفة وجمهور الناس بسبب النسبة العالية من الأمية، أو جهل نسبة من المجتمع باللغة التي تنشر بها الآثار الفكرية والأدبية، وقد أنهى هذا الباحث دراسته بسؤال للنخبة المثقفة وهو: لمن نكتب؟ ومن هو القارئ؟
وقد أحال إيمي سيزار
(Aimé Cesare) الإجابة على السؤالين السابقين على المستقبل، فقد عبّر عن رأيه على النحو التالي: J.A N° 1384, Sept 2006 ستضم ثقافتنا المستقبلية، بلا شكّ، القديم والجديد معا، ما هو القديم الذي سنبقى عليه؟ وما هو الجديد الذي سنضيفه؟ هذا هو ما نجهله… لا يتمثّل دور النخبة في إعطاء تصوّر عما ستكون عليه ثقافة الزنوج المستقبلية، فمهمتنا أكثر تواضعا، إنها تكمن في التحضير لقدوم من يحملون الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها لنزع القيود عن شعوبنا وتحريرها.
أشكال الشراكة الاقتصادية مع إفريقيا وبعض أهدافها
تقوم عدّة بلدان بتنظيم فوروم للتعاون مع إفريقيا لأهداف اٌقتصادية وجيو-سياسية تحت عنوان الصداقة والشراكة مع إفريقيا مثل البلدان الكولونيالية السابقة وهي الحاضرة دائما ودول أخرى صاعدة نذكر منها على سبيل المثال الصين وتركيا وأخرى شرعت منذ ثمانينيّات القرن الماضي في تحضير أرضية للحضور في الساحة الإفريقية عن طريق بناء مراكز ثقافية وبناء مساجد ووكالات للسياحة والطيران والبنوك، كما هو الحال في عدد من بلدان مجلس التعاون الخليجي وإيران والمغرب، ومن الملاحظ غياب الجزائر عن هذا النشاط الثقافي الديني والسياسي الذي يساعد على التعرّف عن قرب على المجتمعات الإفريقية ومدى سرعة أو بطء التحولات فيها، وهو في رأينا غفلة لا نجد مبررا لها طيلة العقود الأربعة الماضية.
ليس هدف هذه المقاربة تقييم مراحل الماضي بإنجازاته وأخطائه لكن لا بدّ من التأكيد على أن السياسة الدوليّة انتقلت منذ نهاية السبعينيات من مرجعيات المبادئ والمثل العليا التي واكبت حركة التحرر العالمي إلى ما يسمى الواقعية السياسية أي تقديم المصالح الوطنيّة أو مصالح التكتلات مثل الحلف الأطلسي والاتحاد الأروبي وحدها وتحوّلت تلك المبادئ والمثل إلى ديباجات تستخدم عند الحاجة للتبرير والإغراء والتضليل.
لقد غاب عن الساحة الدولية كل القيادات التي شاركت في مؤتمر باندونغ وتحوّلت أفريقيا إلى ساحة مفتوحة لقوى خارجية، وكان على الجزائر وهي في قلب إفريقيا وبوابتها الأكبر على الساحل وعلى المتوسط، ونجحت القوى الكبرى في أشغال الجزائر بنوعين من الصراع:
أولهما: داخلي ويتمثّل في عشرية الخراب والدمار التي كادت تهدم أركان الجمهورية، وتحولها إلى الوضع الليبي الحالي مسرحا للتدخلات الأجنبية وفرض أجندة للخضوع الكامل والتبعية بدون قيد أو شرط.
ثانيهما: بغرس نزاع مفتعل مع المغرب في الصحراء الغربية وقد اٌستغلّت القوى الكبرى وحلفها الأطلسي وهما إسبانيا وفرنسا شهية المملكة الغربية للتوسع الترابي نحو السينغال وموريطانيا والجزائر سنة 1963 لتكوين إمبراطورية وهمية.
من المؤكّد أن الصحراء الغربية لم تكن تحت السيادة المغربية ولم يحرك المغرب ساكنا طيلة الاحتلال الإسباني لهذه المنطقة ولم يكن من أولوياتها استعادة أجزاء داخل التراب المغربي تتمثل في سبته ومليلة سوى إنزال مسرحي خجول اٌنتهى في أيام معدودة مع الشكر والاعتذار لإسبانيا وبقاء الجيبين معبرا للتهريب المسموح واليد العاملة الرخيصة في حقول الفلاحة المزدهرة في إسبانيا.
لقد شلّ المغرب باٌفتعال هذه المشكلة المصطنعة التنسيق والتعاون، وأدخل مشروع المغرب العربي أو الكبير غرفة الإنعاش منذ عدّة عقود وهو خدمة كبيرة قدمها المغرب للاٌتحاد الأروبي وللقوى السياسية والاٌقتصادية في العالم التي وجدت كلها في هذا النزاع فرصة لتأجيج الصراعات الجهوية وفرض مزيد من الوصاية على الأطراف المتنازعة على من يتقرب إليها أكثر ويتخلى عن سيادته الوطنية.
لم يكن للجزائر أي أهداف توسعية نحو الصحراء الغربية أو البحث عن نافذة على المحيط الأطلسي، قد تضيف إليها أعباء أشد، وأثقال من الناحية الأمنية في بلد تزيد مساحته على 2 مليون كلم2 وشواطئ على المتوسط تزيد على 1000 كم، فضلا عن الذاكرة التاريخية الحية في قلوب الجزائريين جيلا بعد جيل، فقد كانت المغرب قاعدة خلفية لقوات جيش التحرير الوطني ومعبرا لقوافل التسليح وقد عبر الجزائريون تلقائيا وبمباركة جبهة التحرير أثناء الثورة بمظاهرات الاحتجاج على عزل ونفي الملك محمد الخامس ويحمل شارع في وسط العاصمة اسمه.
ليس هناك أي مشكلة حقيقية تدعو للصراع فضلا عن العداء والتآمر بين الجزائر والمغرب في عصر التجمعات الإقليمية حتى تلك التي لا تجمعها عوامل من التاريخ والجغرافيا والثقافة والتكامل في الاٌقتصاد والأمن المشترك وخاصة في مواجهة وبالإرهاب وموجة كوفيد 19، ولكن التفسير الأقرب للوضعية الراهنة بين البلدين يجد جذوره في سياسة قديمة جديدة اعتمدتها القوى الكبرى هي فرق تسد تطبق منذ أمد طويل في الشرق الأوسط وهي المطبّقة منذ منتصف السبعينات في الفضاء المغاربي.
الذاكرة الإمبراطورية
لقد تمّ تقطيع أوصال إفريقيا في مؤتمر برلين سنة 1885 وتوزيع جسدها بين البلدان الأروبية التي اٌنطلقت في التصنيع بخطى متسارعة لاٌكتساب عوامل القوة والبحث عن أسواق أو مجالات حيوية خارج حدودها ووجدت في القارة السمراء الغنيمة السهلة خارج حروبها البينية وخاصة بين فرنسا وبريطانيا.
قبل تاريخ برلين وبعده بقيت إفريقيا سوقا للرقيق يعامل فيه البشر بالاستغلال والسخرة والاحتقار فقد كان الأفارقة يعرضون في مهرجانات تنظم على طريقة السرك (Zoo humain) في المدن الأروبية للفرجة على مخلوقات من البشرة السوداء أقرب إلى الحيوانات المتوحشة.
تبدو فرنسا التي تفرض نفوذها على عدد من بلدان غرب إفريقيا ووسطها من بين البلدان التي أخذت قسطا كبيرا من الكعكة الإفريقية إلى جانب بريطانيا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا، ونجد نموذجا للنظرة الكولونيالية الاستعلائية في هذه الفقرة من مؤلف فيكتور هيغوV.Hugo بعنوان Discourt sur l’Afrique 1879
جاء فيها ما يلي:
«إفريقيا إنها ركام من الرّمال والرّماد هذه القطعة الساكنة والسلبية منذ ستّة آلاف سنة تعرقل المسيرة الكونيّة.. أيّها الشعوب «يقصد الأروبية» استولوا على هذه الأرض، خذوها هي لمن؟ ليست لأيّ أحد، خذوا هذه الأرض إنها للربّ، إن الربّ يقدمها لكم، الربّ يهديها لأروبا، خذوها !.
هذا هو الوجه الصريح لمؤلّف البؤساء Les misérables الذي أطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية في عاصمتنا، على مقربة من شارع أحد أبطال ثورة التحرير.
اٌختارت فرنسا عنوانا لعلاقاتها مع القارة السمراء هو فرنسا إفريقيا (France Afrique) وهو عنوان يعيد للذاكرة الحضور الكولونيالي المباشر، وقد اٌستبدلته لغويا فقط أثناء الرئاسة الاشتراكية في فرنسا سنة 2012 بإضافة حرف واحد للجملة السابقة لتصبح فرنسا وإفريقيا.
يقدم الباحث السينغالي «مانماي غاي»
«Magay Gay» وهو من السياسيين المختصين في شؤون التنمية في القارة مقاربة عامة لعلاقة القوى الكبرى وخاصة فرنسا بإفريقيا تقوم أساسا على تبادل الأدوار تحت إشراف المراقب أو المنسّق العام وهو الولايات المتحدة، وهي تعتمد أساسا على البلدين الأروبيّين الذين يملكان الرادع النووي وهما بريطانيا وفرنسا وتشرك البلدان الأخرى في جنوب أروبا في أعمال تكميلية مثل بناء تحالفات مؤقتة لمواجهة موسكو أو الصين الشعبية عند الحاجة.
وتستفيد فرنسا في سياساتها الإفريقية من المنظمات الجهوية التي ساهمت في تشكيلها مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CDEAO) والاٌتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (UEMOA) والمجموعة الاقتصادية والنقدية لإفريقيا الوسطى (CEMAC).
تستفيد فرنسا مثل بريطانيا من نفوذها الثقافي واٌنتشار الفرنسية والانكليزية وتكوين الإطارات الإفريقية في جامعاتهما ومعاهدهما وداخل نفس تلك البلدان من إيجاد شكل من التبعيّة الطوعيّة في بلدان تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني وضعف المؤسسات والصراعات القبليّة الداخلية وأحيانا البينيّة التي تسهل التدخل الخارجي الذي تقدمه بطلب من بعض أطراف الصراع، يضاف إلى ذلك الفساد المستشري داخل هياكلها السياسية والإدارية وهو ما ألحق أضرارا كبيرة بمشاريع التنمية وأبقى نسبة عالية من شعوبها حول عتبة الفقر وتدفع الشباب والأقل شبابا إلى الهجرة والهرب من البؤس في قوارب الموت التي تسيرها عصابات النهب والتجارة بالبشر.
يبقى الهدف الثابت للقوى الكبرى على ضفتي المتوسط والأطلسي اٌستغلال الثروات الإفريقية مثل اليورانيوم في النيجر ومناجم الذهب ومصادر الطاقة والذهب في إفريقيا الوسطى والاستفادة من قواعد عسكرية ثابتة لحراسة تلك الثروات أو لمحاربة الإرهاب، بعد حادث البرجين في نيويورك سنة 2001 وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء.
لا نبحث عن متّهم وهمي فعدم الاستقرار في جمهورية مالي المجاورة والتدخّل المباشر سياسيا وعسكريا في هذا البلد الذي كان قاعدة خلفية للثورة في خمسينيات القرن الماضي وتجميد اٌتفاق الجزائر بين الفرقاء منذ 2015 ومساعي فرنسا لتكوين قوّة من التحالف الأروبي ضدّ الجهاديين والضغوط الموجهة للجزائر في السنوات الأخيرة للمشاركة في حرب على حدودها الجنوبية لم تكن سببا في اٌندلاعها من قريب ولا من بعيد على حدود تزيد على 1300 كلم، وهي أكبر بوابات الجزائر على عمقها الإفريقي.
من السهل أن يجد الملاحظ أصابع القوّة الشاملة وحلفائها القدماء والجدد لإزعاج الجزائر وحتى محاصرتها وتهديد منابع الطاقة في الجنوب الكبير من بين تلك التشكيلة من الأنظمة التابعة نجد دولتا النيجر والتشاد وقد فتحا ترابهما الوطني للقواعد الأجنبية ضمن أجندة أفريكوم (Africom) والسلام المجاني مع إسرائيل ولا علاقة مباشرة لأيّ منهما بالصراع في الشرقين الأدنى والأوسط إلاّ في إطار منظمة التعاون الإسلامي التي ليس لها حضور فاعل في السياسة الدولية إلا بقدر ما يخدم مصالح بعض البلدان فيها، كما هو الحال في الجامعة العربية التي هي بصدد تهميش القضية الفلسطينية، وقد يأتي يوم تكون إسرائيل أقوى أعضائها باٌسم منظمة دول الشرق الأوسط بمباركة القوة الشاملة بعد اٌستكمال مخططات الفوضى الهدامة التي أشرنا إلى بعض إنجازاتها تحت عنوان التحولات الكبرى.
الصين وإفريقيا حضور تحت المراقبة
تتابع دول التكتّل الغربي الحضور الصيني المتزايد في إفريقيا ولكن قبل تقديم توصيف موجز لهذا الحضور ينبغي أن نشير إلى حادث يبدو أنه عابر بسبب عدم التحضير له والتنسيق بين الهيئات الجزائرية المدعوة للمشاركة فيه، وهو فوروم الجزائر إفريقيا الذي اٌنعقد في العاصمة ما بين 03 و05 ديسمبر 2016 في جزائر منهكة سياسيا وإجتماعيا بسبب الصراعات الظاهرة والخفيّة وانعدام استراتيجية تنشط التعاون والحضور المفيد على طريقة رابح رابح مع بلادنا التي لها عشرات الرحلات يوميا إلى المدن الفرنسية ولا نكاد نرى أثرا للجويّة الجزائرية في عواصم ومدن إفريقية.
إنّنا ندعو لتوازن الحضور مع إفريقيا وبلدان أخرى فيها جالية كبيرة من المهاجرين تزيد على ثلاثة أجيال ويرفض أحدهم منصب وزير مقابل التنازل عن جنسيته الثانية، وهو بلا شكّ حرّ في اختياره، ولكن لابدّ من تطبيق بنود الدستور التي لا تستثني أحدا، وهذه مسألة فيها نظر.
نتحدث في إعلامنا الوطني عن التصدير إلى الخارج، ومن بين بلدانه إفريقيا وبلاد الساحل وكثير منها لها علاقة قديمة بالجزائر مثل الدين الإسلامي وسهولة التعامل باللغة الفرنسية، إنّ ذلك الحديث يبدو أقرب إلى الغزل الإعلامي والخلط بين الواقع الحقيقي والمأمول.
إنّ الحضور الاقتصادي في إفريقيا في حاجة إلى جهد مؤسّساتي مشترك بين القطاعين العام والخاص، والجدل بين أيهما أولى وأضمن مضيعة للوقت والجهد، إذ أنّ لا أحد في بلدان الساحل يسأل أو يشترط اللون الإيديولوجي فالاهتمام الذي يفرض نفسه في تلك البلدان وغيرها هو الجودة والقدرة على المنافسة وكفاءة الأشخاص أو المؤسسات المكلفة بالتسويق (Marketing) بما فيها السفارات والإطارات المقيمة هناك على قلتها والجمعيات التي تعمل مع نظيراتها في الجزائر لتثمين علاقات تلك البلدان مع الجزائر، وهناك آلاف المتخرجين من معاهد وجامعات الجزائر خلال العقود السابقة وإلى اليوم ومن المرغوب إبقاء علاقات معهم في إطار جمعيات فنية وثقافية وجامعية مفيدة للجميع، وأن تسهر الجزائر من جانبها على تعاون نظيف في إطار القوانين الدولية وتلك التي تحترم السيادة الوطنيّة للشركاء وهو أمر بلا شكّ عمل شاق في مقابل الشركات العملاقة عبر القارية (Intercontinentales).
تعود البوادر الأولى لاٌهتمام الصين بالقارة الإفريقية إلى أوائل القرن الخامس عشر، في هذا التاريخ قاد الأدميرال «زينغ هي»، الذي ينتمي إلى الأقليّة المسلمة في مقاطعة يونان أرمادا تتكوّن من 300 سفينة توجّهت إلى شرق إفريقيا لاٌستطلاع هذه المنطقة من العالم.
غير أنّ هذا الاهتمام توقف بسبب الحروب مع المغول والتدخّل الياياني والأروبي ثمّ الثورة الماوية التي تخلّلتها حرب أهلية اٌنتهت بهزيمة تشايكاي تشيك إلى فورموزا أو طايوان الحالية، وقد عادت الصين بقوّة إلى إفريقيا وخاصة في بداية القرن الحالي.
تستهدف الاستثمارات الصينية في البلدان الإفريقية أساسا موارد الطاقة والثروات المنجمية، كما تركّز على بناء الهياكل القاعدية مثل السكك الحديدية والجسور والمطارات والموانئ وقد تزايد التمويل الصيني لمشاريع التنمية في إفريقيا من مليار واحد سنة 2001 إلى سبعة ملايير سنويا سنة 2010، وهي تموّل 31 % من مشاريع الهياكل القاعدية الإفريقية وتخطّط الصين إلى تمويل يقدر 35 مليار دولار قبل سنة 2025.
ونشير إلى أنّ الأرقام والنسب السابقة مأخوذة من مصادر غربية تدعو إلى الحذر إلاّ إذا قارناها بمصادر من الصين وخاصة تلك المنشورة بعد فوروم الصين إفريقيا سنة 2006 التي تشير عبر تصريحات مسؤولين من بيكين إلى أن الاستثمارات في القارة السمراء سوق تتجاوز 100 مليار دولار قبل نهاية العقد الحالي 2020-2030.
والملاحظ أن صادرات إفريقيا إلى الصين لا تتجاوز 10 % من واردات الصين من مجموع بلدان العالم وهي تتكوّن في أغلبها من المواد الأولية ويقوم ذلك التبادل على طريقة الحزمة (Package)، ويرجع تزايد الحضور الصيني في إفريقيا إلى سياسة الرئيس دينغزياو بينغ التي عرفت في الغرب بالاٌندفاع نحو الخارج (Go Abroad).
يرجع توسّع الحضور الاقتصادي الصيني في إفريقيا إلى عدّة عوامل نذكر منها عدم التدخّل في السياسات الخاصة للبلدان الإفريقية وعقد اٌتفاقات بدون شروط تحدّ من سيادة البلدان المعنيّة وعدم اٌستخدام الديمقراطية وحقوق الإنسان للضغط، ومن المعروف أنّ الصين نفسها تتعرّض لتلك الضغوط من طرف البلدان الأروبية والولايات المتحدة، ويساعد الصين أيضا على التعاون وبناء علاقات اٌقتصادية مع مجموع بلدان القارة أنها بدون ماضي كولونيالي يثير الشكّ في نواياها وأفعالها.
وتعمل الصين على تجاوز عقبة اللغة منذ عدّة عقود بتكوين إطاراتها العاملة في المشاريع الإفريقية في اللغات المحليّة واللغات الأروبية السائدة في مناطق من إفريقيا ودعم الأبحاث والدراسات في أكاديمية العلوم الاٌجتماعية في بيكين لصالح شركاتها ومبعوثيها في المجالات الدبلوماسية والتجارية.
وهناك دلائل كثيرة على اٌنزعاج التكتل الغربي من الحضور الصيني في إفريقيا والسعي لتطويقه نجد بعض علاماته في دراسة لوران ديلكور بعنوان: الصين في إفريقيا: مزايا أم سلبيات
L.Delcourt : La chine en Afrique ; avantages ou inconvénient ? 2006
وقد خصّصنا لهذا الموضوع قسما من دراستنا بعنوان: الجزائر في عالم التحولات الكبرى- دار الخلدونية 2017 – ط2- 2018.
كيف سيكون حال إفريقيا قبل منتصف هذا القرن؟ إفلات من الفوضى الهدامة واٌستعادة الثقة بمستقبلها وترسيخ بناء الاتحاد الإفريقي في المجالات الحيوية؟ وأين ستكون الصين وما هي مكانة العملاق الأصفر على سطح الأرض وحول القمر والمريخ؟
خلاصة أولى:
إنّ المميّزات الجيوسياسية والعلاقات التاريخية للجزائر مع جوارها المغاربي وعمقها الإفريقي يعطيها مكانة خاصة في العلاقات الدولية، كما يفرض على ساستها ونخبها بناء عوامل القوة والمناعة لحماية أمنها الوطني وليس للعدوان أو التحرّش بأيّ من جيرانها، فلم يثبت في تاريخها الطويل أي غزو مسلّح أو ابتزاز سياسي إيديولوجي لجيرانها.
ومن المهم كذلك أن نشير إلى أنّ جذورها الأمازيغية العريقة تركت بصمات عميقة في شخصيتها القاعدية (Basic Personnality) تقوم على ثلاثة ثوابت هي التعلّق بالحريّة والعدالة والتقدّم قد تكون أحيانا في حالة كمون (Latence) ولكن سرعان ما تستيقظ وتقاوم أعداء الحرية والعدالة والذين يدفعون شعبها إلى الجهل والركود والتخلّف.
إنّ تعدّد الأبعاد الجيوسياسية وعمق العلاقات التاريخية مع جيرانها يمكنها من الاحتفاظ بهويّة مرنة فهي أمازيغيّة تحتفظ بأفضل ما في ماضيها لسانا وثقافة وتقاليد اٌجتماعية وتحافظ عليها جيلا بعد جيل منذ آلاف السنين، وهي مغاربية عربيّة إسلامية في علاقة بلادنا مع تلك الشعوب وخاصة أثناء ثورة التحرير فقد وجدت تأييدا أو تعاطفا مع كفاح الجزائريين البطولي بطريقة تلقائية، وهي إفريقية بعلاقات شمالها وجنوبها مع شعوب إفريقيا قديما وحديثا ساهمت في بناء وحدتها الإفريقية وهي في معركة التحرير وفي اٌتحادها بعد ذلك وفي إسناد كفاح شعوبها من غربها إلى جنوبها بلا أنّ تنتظر جزاء ولا شكورا، وهي كذلك على الضفّة الجنوبيّة من المتوسّط تسعى دائما إلى تعاون نزيه واٌحترام متبادل لا يمحو من ذاكرة شعبها معاناة طويلة من الظلم والعدوان وخاصة في ليل الاحتلال المظلم والطويل.
كلّ هذه الأبعاد التاريخية والجيوسياسية تجعل الجزائر من أكثر بلدان المنطقة اٌنفتاحا وتسامحا وطرفا يمكن أن يكون محلّ ثقة في النزاعات التي تطرأ في القارة وفي العالم العربي الإسلامي ومن الرأي السديد عدم الاٌنغلاق في أيّ من الأبعاد السابقة، فالقول بأنّ الجزائر أمازيغية فقط ولا شيء سوى ذلك يؤدّي إلى عزلة ومحو لأبعاد أخرى لا تقلّ أهمية، كما أنّ الزعم بأنّ الجزائر عربيّة فقط، أو إسلامية فقط، إنكار يؤدّي إلى إنكار الأصول في ماضي مشترك بين كلّ الجزائريين مهما كان ميلادهم على مساحة تزيد على 2 مليون كلم2، كما أنّ الإدّعاء بأنّ الجزائر ملحق لشمال المتوسّط ولا شيء يربطها بأبعادها الأمازيغيّة والعربيّة الإسلاميّة لا يصمد أمام وقائع التاريخ والجغرافيا والممارسات المتواصلة إلى اليوم، فإذا كنّا شركاء في المتوسّط فإنّ التعاون النزيه ينبغي أ ن يكون بين أطراف تراعي المصالح الحقيقيّة وتعيد النظر في الذاكرة الإمبراطورية.
د.محمد العربي ولد خليفة