عادت «حالة الحرب» إلى الصحراء الغربية بعد 30 سنة من المسكنات غير المجدية التي قدمتها الأمم المتحدة، السنة تلو الأخرى، وامتدت إذا شرارة اللهب إلى كامل منطقة شمال إفريقيا، بعدما اقتصرت في العقد الأخير على الحدود الشرقية والجنوبية للجزائر. فما الذي ينبغي فهمه من هذه التطورات؟
أعلنت الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، أمس، على لسان رئيسها والقائد الأعلى لقواتها المسلحة إبراهيم غالي، عن «نهاية الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المملكة المغربية سنة 1991»، بحسب وكالة الأنباء الصحراوية الرسمية (واص).
المرسوم الرئاسي الذي وقعه غالي، بعد 24 ساعة من خرق القوات المغربية الاتفاق بمنطقة الكركرات، يضع المنطقة رسميا في «حالة حرب»، بعد 30 سنة من السلم الهش والبؤس المتنامي للشعب الصحراوي.
وفي انتظار ما ستسفر عنه التحركات الدولية، تكون الجهة الغربية للحدود الجزائرية قد اشتعلت ومن المستبعد أن تعود إلى ما كانت عليه قبل 13 نوفمبر الجاري، ليكتمل بذلك طوق النار حول الجزائر، فبعد ليبيا ومالي والساحل الإفريقي ككل، التحقت الصحراء الغربية بقائمة المناطق عالية التوتر.
مستهدفة أم معنية؟
المحتوى الرديء لمواقع التواصل الاجتماعي والطريقة البليدة في تناول المواضيع الجادة عبر هذه المنصات، لطالما نجح في تحويل القضايا المرتبطة بالأمن القومي إلى مسائل مبتذلة ومرتبطة بأوهام «نظرية المؤامرة» أو الحسابات السياسية الضيقة جدا، بما لا يسمح ببناء تصور حقيقي عما يجري بالضبط.
ومثال ذلك السؤال الجاد حول علاقة الجزائر مما يجري على حدودها الواسعة، وما إذا كانت مستهدفة؟، الذي طالما راح ضحية النقاش المميع، بينما تحرز القوى الأخرى التقدم تلو الآخر في تنفيذ خططها بأساليب مختلفة وبتجنيد عملاء وكتائب إلكترونية (الذباب الإلكتروني) لتحضير الرأي العام لتقبل واقع جديد.
بغض النظر عن الإجابات التي قد تتفاوت بين الأكاديميين وأهل الاختصاص، ينبغي التذكير ببعض المعطيات الأساسية، وهي أن الجزائر أكبر بلد مساحة في القارة الإفريقية، وتملك أكبر احتياطات العالم في الطاقات غير التقليدية والمياه الجوفية والمعادن الثمينة ودولة متوسطية وبوابة رئيسة لولوج إفريقيا جنوب الصحراء.
وإلى جانب هذا كله، تبني الجزائر سياستها الخارجية على مبادئ راسخة، كدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام سيادة الدول ووحدتها الوطنية ورفض الهيمنة والتدخلات الخارجية، وتطالب بنظام دولي عادل قائم على التعددية بدل الأحادية.
مع التغيير الواضح لخارطة النفوذ التي رسمتها القوى الكبرى منذ ما يقارب 100 عام، انبعثت مجددا الصراعات الدولية بعيدا عن قاعدة الأولوية التاريخية (الاستعمارية)، ومثال ذلك ما يجري في ليبيا منذ 2011، فلو خضعت الأزمة لمنطق النفوذ القديم لتكفلت إيطاليا لوحدها بقيادة مسار التسوية، لكن البلد رهينة صراع شرس بين عديد الدول، وظهر واقع جديد يحدد علاقة الجزائر بكل ما يحدث.
قد يكون القول بأن «الجزائر مستهدفة»، صحيحا إلى حد ما، ولكنه يحمل ما قد يفهم استعطاف أو محاولة لخلط الملفات الداخلية والخارجية، لذلك جاء التعبير الرسمي عن الموقف بما يتماشى وتاريخ وهيبة البلاد، على لسان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
الرئيس ومن مقر وزارة الدفاع الوطني، في 10 أكتوبر الماضي لم يقل إن الجزائر «مستهدفة» أو «مقصودة»، وإنما أكد أنها «معنية» بشكل مباشر أو غير مباشر «بالصراعات الدولية على حدودها».
وشدد في ذات الخطاب، أمام كبار قادة الجيش الوطني الشعبي، على أن «المتربصين بنا لن يتوقفوا». وفي محيط إقليمي عالي التوتر، رفضت الجزائر الانكفاء على الذات، مثلما راهن البعض، متوهمين أن تطهير البيت الداخلي من دنس الأوليغارشيا، قد يزيحها بعيدا عن الأحداث الإقليمية.
وهنا ينبغي التذكير، بأن أول اجتماع للمجلس الأعلى للأمن، بقيادة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة عبد المجيد تبون، عقد بتاريخ 26 ديسمبر 2019، أي بعد 7 أيام عن مراسم تنصيبه رئيسا للبلاد.
وتوج الاجتماع بإعلان «إعادة تفعيل وتنشيط دور الجزائر على الصعيد الدولي، خاصة فيما يتعلق بالملفين الليبي والمالي، وبصفة عامة منطقة الساحل والصحراء وإفريقيا»، واتخذت «تدابير لحماية حدودنا وإقليمنا الوطني».
الأمر الواقع
ارتفع صوت الجزائر دوليا، وأصبحت «ترفض» و»توافق» و»تشدد» و»تلح» على مسارات سياسية وأمنية في المنطقة وبالأخص في مالي وليبيا، دون أن تتراجع قيد أنملة عن مواقفها من القضايا العادلة كالقضيتين الفلسطينية والصحراوية.
وفي وقت فضلت كثير من الجهات تبني سياسية النعامة، درءاً لشر بعض متهوري السياسة الدولية ممن لا يفرقون بين النفوذ والفوضى، قالت الجزائر على لسان وزير خارجيتها صبري بوقادوم (تصريح على هامش الاستفتاء على تعديل الدستوري في الفاتح نوفمبر الجاري) إنها «متمسكة بمبادئها» و»لا تخشى أحدا».
وقد سبق ذلك تأكيد الرئيس تبون، أن «الجزائر من حماة ودعاة الوحدة الوطنية»، في إشارة إلى رفض كل محاولات تقسيم ليبيا ومالي، وأنها ضد سياسة الأمر الواقع في الصحراء الغربية ولن تقايض على مبادئها مهما كان حجم المغريات.
انتعشت نظرية فرض الأمر الواقع مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم سنة 2016، وحاول حلفاؤه وأتباعه استخدام سلاح القوة الهجومية المتوهمة والمال (شراء الذمم والمواقف)، لحسم الكثير من الملفات، بغض النظر عن الشرعية الدولية.
ويدخل خرق المغرب، لاتفاق وقف إطلاق النار في منطقة الكركرات، صباح الجمعة، ضمن هذا التصور، فقد فعل ما لم يجرؤ عليه سنة 2017 (أصل أزمة المعبر)، ولا شك أنه وجد سندا للمضي قدما في هذه الخطوة.
وفي مقابل ما اعتقد المغرب وداعموه، بأنه أمر واقع، تعتبر الجمهورية العربية الصحراوية، استئناف الكفاح المسلح «أمرا واقعا لا مفر منه»، بل إن جبهة البوليساريو، تخلصت أخيرا من الضغوط الشعبية الهائلة لإعلان الحرب وتجاوز القرارات المملة التي يصدرها مجلس الأمن دون جدوى.
واشتعال كل هذه النيران على الحدود الجزائرية، لن يخلق واقعا جديدا، بل إن كل شيء سيخضع إلى خصوصية المنطقة ورفضها التاريخي لكل ما له صلة بالهيمنة والإملاءات، مهما اشتدت وطأة الأزمات المفتعلة. وتملك الجزائر الرصيد الكافي لتجاوز كل التحديات التي قد تفرض عليها، مثلما تجاوزت في السابق تحديات فرضت عليها بالقوة والمؤامرات.
ولفهم أوسع لخلفيات تحركات مفتعلي الفوضى، من المهم العودة بتمعن إلى تصريحات الفريق سعيد شنڤريحة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، في 27 أوت الماضي، عندما أكد «السعي إلى إعادة الاعتبار إلى البحرية الجزائرية، كانت تمثل دون منازع سيدة البحار الأولى، وقوة يحسب لها ألف حساب في البحر الأبيض المتوسط». وعندما شدد في 10 أكتوبر الماضي، على «الطموحات المشروعة في بناء جيش قوي، احترافي قادر على السيطرة على زمام الأمور على المستوى الإقليمي».