يثبت البرلمان الأوروبي، في كل مرة، أنه تحول إلى جهاز لإنعاش سياسة التوسع والهيمنة الأوروبية التي تكاد تتلاشى بفعل تحولات عميقة ومتسارعة يعجز عن مواكبتها. وفي محاولة للفت الانتباه وتقديم خدمات لقوى معروفة، عاد مجددا ليمارس هوايته المفضلة «التدخل في الشؤون الداخلية للدول» واختار مرة أخرى الجزائر.
للمرة الثانية في أقل من سنة، يصوت البرلمان الأوروبي على مشروع لائحة «تدين الجزائر»، والسبب نفسه: «مزاعم حول وضعية حقوق الإنسان وحرية التعبير»، لكن اللافت فيما صدر عنه الخميس، هو وصف القرار بـ «الطارئ».
من المعروف أن ما يصدر عن الهيئة التشريعية للإتحاد الأوروبي «غير ملزم»، ولكن ذلك لا يقصيه من كونه الجهاز السياسي الموضوع تحت تصرف الهيئات التنفيذية للدول الأعضاء (الحكومات) وبدرجة أقل المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي.
لقد سمح النواب المصوتون على اللائحة التي «تدين الجزائر»، لأنفسهم بالتعليق على قرارات قضائية صادرة في دولة ذات سيادة والخوض في مسائل داخلية محضة، دخلت حيز التنفيذ أو فصل فيها منذ مدة، فما هي الدوافع وراء نعتهم «القرار بالطارئ»؟.
من الواضح أن خرجة البرلمان الأوروبي، انتقائية من حيث التوقيت ومبيتة، كمشروع مضاد للتحولات الهيكلية التي تتجه الجزائر لإقرارها على أكثر من صعيد، وأقلها مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وإخضاعه لتقييم دقيق وشامل بعدما كان يصب في اتجاه واحد منذ دخوله حيز التنفيذ سنة 2005.
ومن يشير على نواب البرلمان الأوروبي بتبني هكذا مواقف حيال الجزائر؟. لا شك أنه ينتقي جيدا التوقيت في محاولة للاستثمار في السياقات الداخلية والإقليمية للبلاد، ويكفي التذكير بأن اللائحة المماثلة صدرت السنة الماضية بتاريخ 28 نوفمبر 2019، أي قبل 10 أيام عن الانتخابات الرئاسية، في تصرف عكس مدى دعمه لفترة انتقالية خارج أطر الدستور بما تحمله من كوارث على المنطقة ككل وليس الجزائر فحسب.
ويأتي القرار الأخير، في اليوم ذاته (الخميس) الذي أعلن فيه رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق سعيد شنقريحة، أن «الجزائر تشهد هذه الأيام، حملات مسعورة من قبل دوائر معادية معروفة، لم يعجبها الخط الوطني الصادق والشجاع، الذي تم تبنيه من قبل السلطات العليا للبلاد».
بمعنى آخر، أن الجزائر ليست متفاجئة أبدا من خرجة البرلمان الأوروبي، بل وكانت منتظرة في إطار التنسيق الواضح بين القوى التي تتولي إشعال الفوضى على حدودها بعدما فشل المخطط التخريبي من الداخل.
ومن الطبيعي أن تكون لائحة «التدخل السافر» طارئة، لأن من وراءها تأخروا عن مواكبة المستجدات الحاصلة على الساحة الوطنية الجزائرية وعلى حدودنا الغربية، من اعتداء فاضح للمغرب على مدنيين صحراويين بمعبر الكركرات وافتتاح بعض الجهات قنصليات بالعيون المحتلة، وتصريحات مسمومة لمسؤولين أوروبيين حاولوا قلب توظيف مصطلح «المرحلة الانتقالية» في الجزائر، آملين في خلق ارتباك داخلي.
وسبق لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، التأكيد خلال اجتماع الحكومة والولاة في أوت الماضي، «أن الطامعين في مرحلة انتقالية بالجزائر والمخططين من وراء البحر مخطئون، لأن القطار انطلق ولن يرجع إلى الوراء».
خدمة أجندة
لم تتوقف لائحة البرلمان الأوروبي عند التعليق الروتيني على وضعية حقوق الإنسان، بل تجرأت على رفض أحكام قضائية صادرة عن العدالة الجزائرية ونصوص قانونية جديدة تم إقرارها من مؤسسات دستورية جزائرية، وهنا تكتمل أركان التدخل السافر والفاضح في شؤون الدول.
وليس غريبا على هذه الهيئة مثل هذه التصرفات، فلما يتعلق الأمر بالمصالح الضيقة تدوس على كل شيء، حتى على مؤسسات الاتحاد الأوروبي نفسها.
ففي سنة 2019، صوتت بالإجماع على توسيع التفضيلات الجمركية للاتفاق التجاري مع المغرب ليشمل إقليم الصحراء الغربية المحتل، رغم إصدار المحكمة الأوروبية قرارين قضائيين ملزمين يستثنيان المياه الإقليمية والأراضي الصحراوية من أي اتفاق بين بروكسل والاحتلال المغربي. علما أن الإتحاد الأوروبي لا يعترف رسميا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
هذه التصرفات تجعل من المؤسسات التي تشرّع لـ27 دولة أوروبية، مجرد جهاز للتعبئة السياسية في إطار أجندات واضحة معادية لسيادة الدول وتريد بعث الهيمنة والتوسع بعد الانكماش والاضمحلال الذي أصاب السياسة الخارجية الأوروبية، بالشكل الذي جعلها عاجزة عن حل قضاياها الداخلة وإيجاد مبررات مقنعة لاستمرار التضامن الأوروبي.
واللافت أن البرلمان الأوروبي وبإيعاز من بعض الحكومات المعروفة، يساهم في إذكاء الصخب والحملة الإعلامية القذرة ضد الجزائر، في إطار ما يعرف بلعبة التطويق الاستراتيجي.