الصراع جيو-سياسي بالدرجة الأولى للسيطرة على مناطق نفوذ
اعتبر الدكتور إدريس عطية، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر والخبير في الشؤون الدولية، أن الصراع في سوريا جيو-سياسي بالدرجة الأولى للسيطرة على مناطق نفوذ تخدم مصالح دول كبيرة قريبة جغرافيا من سوريا، لأن الأطماع ترتبط بمصادر الطاقة وخطوط أنابيب الغاز، ويعتقد أنه أمام هذه الدولة الجريحة والشعب الطيب مسافة زمنية طويلة لتضميد الجراح وإرساء مصالحة حقيقية بين أبناء الشعب الواحد. واغتنم الفرصة ليحذر من التحول الذي شهده التنظيم الإرهابي «داعش» الذي خسر جغرافيا ويحاول العودة افتراضيا.
– الشعب ويكاند: خلف الربيع العربي حروبا مدمرة ومآسي إنسانية وأجج التكالب الأجنبي على دول عربية من بينها سوريا وليبيا كيف جاءت التكلفة بعد 10 سنوات؟
الدكتور إدريس عطية: أعتقد أنه بعد عشر سنوات على مرور ما سمي بالربيع العربي، أي منذ نهاية عام 2010، أفضت هذه الانتفاضات الشعبية التي شهدها العالم العربي انطلاقا من تونس، ومن ثم حركة ما يطلق عليها «الدومينو» إلى تأثير بارز على العالم، فوصلت الشرارة إلى مصر والبحرين وسوريا واليمن وطالت ليبيا، لكن للأسف هذا ما سمي بالربيع العربي كان له انعكاس سلبي حقيقي أدى إلى «ردة» ديمقراطية حقيقية لأغلب البلدان العربية، باستثناء تونس التي شهدت قفزة نوعية في الانتقال الديمقراطي، غير أنها عانت كثيرا في المسائل السياسية والأمنية والاقتصادية، وسوريا أيضا كانت الساحة الأوسع لحرب عالمية مصغرة بين مختلف الأوساط، وعرفت سوريا في الأساس، العديد من الحروب الهجينة سواء بين الدول المختلفة، بينها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وغيرها من الدول، وإلى جانب العديد من تصفيات الحسابات من خلال نشر الإرهاب، انطلاقا من جبهة النصرة وصولا إلى تنظيم داعش، من خلال دعم العديد من الميليشيات في سوريا، مثل ما سمي بالجيش الحر وسياسيا مثل الائتلاف السياسي السوري المعارض، وغيرها من جماعات تشكلت كمعارضة خارج أو داخل سوريا.
وكانت هذه الدولة في حقيقة الأمر مسرحا كبيرا لتصفية العديد من الحسابات الدولية، سواء بأيدي السوريين بالداخل أو من خلال تدخل العديد من العناصر السياسية والعسكرية الأجنبية التي تدفقت على سوريا، حيث تجاوزت الجنسيات التي كانت متواجدة المائة جنسية، بين مخابرات وعسكريين وإرهابيين، وهذا ما يؤكد أن الصراع في سوريا، صراع جيوسياسي مرتبط بمصادر الطاقة وخطوط أنابيب الغاز، التي قد تنتقل من الجنوب نحو الشمال واتجاه شرق أوروبا أو نحو القارة العجوز، وهو صراع نفوذ ومصالح لكبريات الدول القريبة من سوريا، ونفس الشيء ينطبق على ليبيا لأنها في جزئها الشرقي غنية بالغاز، أما جزئها الغربي ثري بالبترول، لذا الصراعات سواء في الإطار المتوسطي أو في الشمال الإفريقي كانت مرتبطة بهذا الإطار.
وحقيقة فإن المشهد الليبي يشبه كثيرا المشهد السوري، حيث تمت تصفية العديد من الحسابات، التي مارست فيها العديد من الحروب بالوكالة لصالح قوى غربية ودولية، وللأسف اشتعلت العديد من هذه الحروب بأيادي سوريين بأنفسهم أو ليبيين بأنفسهم، ولأن هذه التكالبات الأجنبية ترتبط بمصالح وأجندات قوى غربية، ولا يمكن لها أن ترتبط بطموحات العالم العربي أو بطموحات الشعبين السوري والليبي على حد سواء، علما أن الشريان الحقيقي الذي يغذي هذه الحروب يتمثل في المصالح المرتبطة بمصادر الطاقة أو الممرات التي يمكن أن تمر منها الطاقة سواء غاز أو أنابيب.
«داعش» خسر جغرافيا وتحوّل افتراضيا
– صوت الحرب انتهى في سوريا، لكن برزت بقوة حروب إقليمية..ما هي التحديات التي تواجهها هذه الدولة الجريحة خاصة أنها تتخبط في ظروف اقتصادية صعبة؟
أظن أن سوريا لازالت تحتاج إلى مسافة زمنية كبيرة، من أجل تضميد جراحها والقيام بمصالحة وطنية سورية-سورية بين الأشقاء السوريين وتجمع أبناء الوطن الواحد، والذين هاجروا إلى الوطن العربي وأوروبا، لأن الحرب المدمرة التي قاربت العشر سنوات، أثرت كثيرا على البنية الاجتماعية السورية، وأثرت على البناء الوطني في شكله الفيزيائي أو المعنوي المتمثل في المدن والمعمار السوري والبنى التحتية والشكل المعنوي، المتمثل في الروح المعنوية التي كان يتمسك فيها السوريون بوطنهم، وبانتمائهم العربي والحضاري والديني وتعايشهم مع الديانات الأخرى.
إن صمود النظام السياسي السوري، يبقى له الفضل في استمرار سوريا وفي إمكانية عودة وحدتها ولملمة جراحها وإشرافها على المصالحة الوطنية الشاملة داخل سوريا، لكن التحديات تبقى دائمة صعبة، لأن هناك العديد من الدول لا تزال راغبة في صناعة الأزمات في سوريا. نتحدث عن العين الأمريكية أو النظام الأمريكي وطموحات وأهداف الإدارة الأمريكية لا تزال تسيطر وتحدد الاستراتيجيات، إلى جانب روسيا التي لديها عقدة من أجل التوجه نحو المياه والمناطق الدافئة، حيث تتواجد روسيا نجد أمريكا، ولأن تواجد القطبين الهامين سيحتم وجود أقطاب أخرى إقليمية مثل تركيا وإيران وما إلى غير ذلك، كل هذه الدول ستبقي على تواجدها سواء العسكري أو الاستخباراتي أو الاستراتيجي، وبالتالي التحدي الأول يعد تحديا عسكريا من أجل تحقيق أمن حقيقي لسوريا وإخراج العناصر الأجنبية من سوريا، ومدى تماسك النظام السياسي السوري وصموده في موجة هذه التحديات، إلى جانب التحدي الاقتصادي لأن حصار سوريا وتدميرها وزوال أبرز مرتكزات الاقتصاد السوري، خاصة أنه كان يقوم على الصناعة النسيجية والتحويلية والسياحة وبعض الغاز.
يذكر أن إعادة سوريا في مشهد سياحي زاخر يحتاج إلى مدة زمنية طويلة، إلى جانب الصناعة السورية التي تم تفكيكها، والتحدي الثالث يكمن في التحدي المجتمعي، الذي مازال يشهد انقساما جراء الحرب وبسبب تصفية الحسابات وعمليات القتل والتقتيل، والمصالحة الوطنية قد تذهب بهم إلى الانتقال من العدالة الجزائية إلى العدالة الانتقالية، ولا يخفى أن الغرب وظف النزعات العرقية، والتحدي الرابع سياسي بحت قائم على النظام السياسي والانتخابات الرئاسية المقبلة.
– تنظيم داعش الإرهابي خسر مرحليا لكنه لم ينته..ما هي التهديدات التي مازال يشكلها على استقرار المنطقة؟
بالفعل خسر تنظيم داعش العديد من الحروب غير أنه لم ينته، وينبغي القول أنه عرف تحولا بعدما خسر جغرافيا على الأرض، فتحول إلى المجال الافتراضي، وتمركز في البداية في بلاد الشام أو العراق والمناطق الرابطة بين سوريا والعراق، لكن خسارته في هذا الإطار وعجزه عن السيطرة عن هذه المناطق أمام التدخلات العسكرية الدولية أدى به إلى التحول إلى المجال الجغرافي.
وداعش اليوم متواجد في جميع دول العالم، ويسير وفق نفس نموذج تنظيم القاعدة، حيث بات يستخدم حاليا أساليب أكثر تطورا من التي استعملتها القاعدة مثل وسائط التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الحديثة، ووفرت لداعش العديد من العمليات والتسهيلات، أي التحول من الجانب الجغرافي ينبغي التركيز عليه، وحتى على القوى الدولية أن تهتم بهذا الجانب وتحاول القضاء على ما أصبح يسمى بالإرهاب «السبراني»، الذي تتبناه داعش والعديد من التنظيمات الإرهابية في دول العالم، ومع ذلك يبقى في سوريا التحدي الداعشي مهما وخطيرا، لأنه لا يزال يميل للعودة في استغلال الفراغ السياسي والأمني، ويرغب في إنشاء بعض القواعد الصغيرة والخلايا النائمة في هذه المناطق، لينافس الغرب، عبر القيام بهجمات عسكرية ضد الغرب والهجوم على هذه المناطق واستعمالها كأرضية للانطلاق. وخلاصة القول في هذا المقام أن سوريا مازالت في خطر بل ومجالا خصبا للإرهاب يتهددها بقايا داعش في سوريا.
– ما هي المقاربة المعتدلة التي بإمكانها إعادة ترتيب البيت السوري من خلال إرساء مصالحة تعيد اللحمة والوحدة للسوريين؟
سوريا بإمكانها الذهاب لمصالحة وطنية قياسا بالتجربة التي طبقتها الجزائر في المصالحة، ويوجد كذلك النموذج الجنوب إفريقي والروندي الرائد، على اعتبار أن المصالحة في سوريا تجمع السوريين من كثير من مناطق العالم خاصة الراغبين في العودة.
تجديد النظام الإقليمي العربي
– كيف ترون مستقبل سوريا على الأقل في العشر سنوات المقبلة على الصعيدين الأمني والاقتصادي..ما هي الحلول الممكنة حتى يعيد الشعب السوري ترميم ما انكسر؟
ممّا لاشك فيه أن عشر سنوات، فترة طويلة حيث نجد أطفال سوريين ولدوا خارج الديار وتمدرسوا في أوساط أخرى، وعلى سبيل المثال في الجزائر اندمج السوريون في المجتمع، وربما لا يرغبون في العودة ونفس الأمر بالنسبة للذين هاجروا لأوروبا، والكثير من الدول الأوروبية استفادت من الكفاءات السورية، لذا الرهان صعب لكن ليس مستحيلا أمام الإرادة الصلبة. وهناك الخطاب السياسي السوري الذي يجب أن يتوجه لعموم المواطنين داخل وخارج سوريا للدعوة للوحدة والمصالحة الحقيقية. وبناء هذه الدولة لأنها في حاجة إلى مساعدات خاصة على ضوء الطرح الجزائري، الذي أصر على العودة إلى البيت العربي لإعادة اعتماد مقعدها الثابت والدائم في جامعة الدول العربية. وعودة دور سوريا في حظيرة الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإقليمية والأوروبية التي ساهمت دوله في تخريب سوريا. هذه الدول يجب أن تساهم في إعادة بناء سوريا بشكل كامل، وربما الأمر صعب من قبيل التصور للملمة سوريا أي البناء المادي والمجتمعي، لأن العمليتين مرتبطتين ببعضهما البعض، وكون أبنائها لن يعودوا وهي خراب وإنما بعد بنائها.
ولتستعيد سوريا أسواقها في السياحة والصناعة، ينبغي الرهان أن يكون من خلال إرساء مصالحة سورية، ومن ثم تجسيد مصالحات عربية مستقبلا تدفع بتجديد النظام الإقليمي العربي ككل وتوحيد التوجهات العربية، وربما هذه الخطوة صعبة لكنها تعد الحل الحقيقي للعالم العربي الذي أصبح منقسما ليس سياسيا فقط وإنما إيديولوجيا.
ترتيب البيت السّوري
– هل السياسة التي سينتهجها بايدن ستعجّل بتسوية بؤر التوتر، وتنهي معاناة الشعوب العربية التي اكتوت بنيران الربيع العربي؟
على ضوء العديد من تصريحات بايدن اتجاه صفقة القرن في فلسطين أو حول نظرته للعالم العربي أو العلاقات الأمريكية الدولية بصورة عامة، كلها مسائل مهمة، خاصة أننا في فترة انتقالية بين الرئيس الأمريكي المنتهي ولايته ترامب والجديد بايدن، والمهم في كل ذلك التوجهات بالنسبة للدول العربية وتماسك سوريا مع محيطها الإقليمي العربي، في ظل توقع تحول حقيقي في سياسة الرئيس الجديد، وهنا لا نذهب إلى مثالية كبيرة، لأن الإدارة الأمريكية شئنا أم أبينا إدارة مؤسسية واضحة ومضبوطة، قد لا تتغير بتغير الرؤساء، مع أنه بايدن أصر على هذا التحول، لأن ترامب ألغى العمل مع المؤسسات السياسية والإدارية في أمريكا، لكن بايدن قد يعود إلى تفعيل دور هذه المؤسسات والإدارات الأمريكية، وقد يذهب إلى إعادة إحياء العديد من المفاهيم، من بينها مفهوم السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإعادة ترتيب البيت السوري بما يخدم مصلحة الشعب السوري ومصلحة الدولة السورية، ليبقى الرهان في الأخير رهانا سوريا داخليا ورهانا إقليميا دوليا، للتكيف مع ما يخدم سوريا لأن التدخلات الأجنبية منذ بدايتها هي من مزقت سوريا وحالت دون الحسم العسكري، فكانت الحروب بالوكالة لها الدور الأبرز في إطالة الصراع وتطويره مرحلة بعد مرحلة، وكل ذلك راجع لإنهاك سوريا وتدميرها.
والجدير بالإشارة، فإنّ إسرائيل تلعب دور شرطي المرور في منطقة الشرق الأوسط وتم تنصيبها من طرف أمريكا، وتتبنى إستراتيجية خطيرة لتبقى القوة العسكرية الأقوى، لذا التحديات السورية حاليا كبيرة ورهان الشعب السوري حساس، ومن الضروري توخي الحذر بالنسبة لسوريا والبلدان العربية، والتحلي بالوعي واستيعاب استراتيجيات الدول الكبرى التي ترمي السيطرة على المنطقة.