حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط طباعة إرسال كن أول من يعلق!
بقلم : وليد عبد الحي
تؤكد لنا أدبيات الإنثروبولوجيا السياسية، أن الأدوات التنظيمية الرسمية التي رافقت تطور البنيات السياسية، تشكلت طبقا للبنية الاجتماعية والنمط الاقتصادي السائد. ففي المجتمع الزراعي، كانت القبيلة هي أداة التنظيم الاجتماعي وهي التي تحدد المنظومة القيمية ونمط التنظيم السياسي. لذا، ليست مصادفة أن النظم المَلَكية (التي تقوم على النسب والدم) كانت هي أولى أشكال السلطة السياسية امتدادا لنموذج شيخ القبيلة في كل المجتمعات شرقها وغربها، وكانت السمة المركزية لهذا المجتمع هو إيقاع التغير البطيء. كما أن آلة الإنتاج – وهي الطبيعة- كانت تسيطر على صاحبها (فهو لا يتحكم لا في المطر ولا الريح ولا الحرارة…الخ) بل إن جدول أعماله مرهون وبشكل محكم بمواعيدها صيفا وشتاء وإزهارا وإثمارا وقطفاً…الخ، مما وضع أسس ثقافة الميتافيزيقيا والخضوع لسلطة عليا تحاول أن تربط سلطتها بتفويض من تلك السلطة العليا صاحبة الآلة.
في المرحلة الصناعية، بدأ زمام المبادرة والسيطرة ينتقل من يد الآلة إلى يد مبدعها وهو الإنسان الذي تورمت الأنا لديه، وبدأ يعمل على تنظيم أدوات السلطة والمجتمع، استنادا لثقافة نزعة السيد لا ثقافة العبد، كما كان في عصر الزراعة والإقطاع. وليست مصادفة أن مفهوم الحرية بمعناه الواسع، بدأ يتسلل تدريجيا للمنظومة المعرفية ولو على شكل فسائل على ساق شجرة التطور، وهنا برزت آلة التنظيم الجديدة لتجاري إيقاع التسارع الثاني الذي تضع الآلة مقاماته الموسيقية، وهي النقابة والحزب العابرتين لحدود العائلة والدم، ولكنه بقي لصيق الثقافة المجتمعية، وهو ما يفسر ترابط هذا الشكل التنظيمي مع بروز الدولة القومية ولكن بمضمون عقائدي أكثر رحابة، وشكل ذلك خلخلة لمفهوم الأسرة المتكلسة لتتسع في مداها نحو الأفق الثقافي المتمازج مع الملامح السابقة بمنظور هيجلي واضح.
في المرحلة ما بعد الصناعية والانتقال من مجتمعات الترابط الآلي إلى مجتمعات الترابط العضوي، كما رآها اميل دوركهايم، بدأ ظهور التنظيمات الإقليمية والدولية الحكومية وغير الحكومية وبناء البيروقراطيات الضخمة والمتعجلة بفعل التسارع الثالث في إيقاع التفاعلات الاجتماعية والسياسية، وهنا برز التزايد الواضح في هيئات المجتمع المدني التي شكلت أطرا تنظيمية تتجاوز حدود العرق والدم بل والثقافة لإطار أرحب، فأصبحت الدعوة لحقوق إنسان لا لحقوق مواطن، ولم تعد «آلة الحزب» قادرة على مسايرة إيقاع الإنتاج الخدمي (Service)، فانهمك المجتمع بتنظيم نفسه بعيدا عن سلطة عليا تحدد له قيود وقواعد الحركة بل هو صانعها.
في مرحلة الفضاء السبراني والتسارع الرابع أصبحت البيروقراطية الحكومية والخاصة (الشركات والمصانع والبنوك…الخ)، عاجزة عن مجاراة التسارع الجديد الذي ألغى الزمن والمسافة من ناحية ونقل البشرية من الجغرافيا المادية إلى الجغرافيا السيبرانية من الناحية الثانية، وهنا بدأ التوجه من البيروقراطية «Bureaucracy» إلى « Adhocracy» أي الهيئات المؤقتة التي ما أن تنجز مهمتها حتى تنحل لتدخل في تفاعل آخر لا يقوم على قواعدها التنظيمية السابقة.
إن مختلف الدراسات (لا يتسع المقام لسردها)، تؤكد ان مكانة القبيلة تراجعت بشكل كبير، ثم تلاها تراجع دور الأحزاب حاليا، وتبعها المجتمع المدني، وبدأت تُطل علينا مؤشرات الهيئات المؤقتة، والمسافة الزمنية للتحول الأول من القبيلة للحزب والنقابة كانت طويلة، ثم قصرت الفترة في الانتقال من الحزب والنقابة للمجتمع المدني، ثم زادت قصرا مع بداية الانتقال إلى الهيئات المؤقتة، وبالطبع لكل مرحلة أطلالها الثاوية في أحشاء المرحلة اللاحقة لها، لكن دورها لا يزيد عن كونها شواهد لا فواعل في حركة الواقع بعدها.
إن الاتجاه العام في الدراسات السياسية المعاصرة، يشير إلى أن إيقاع التسارع يتزايد، وان الجلوس عند أطلال الأدوات التنظيمية التاريخية هو تعبير عن عدم أدراك لعمق التحولات القادمة. فالدراسات السياسية تكاد تجمع على أن الأحزاب والنقابات والتنظيمات القومية والتنظيمات الدينية هي في طور التحلل آجلا أو عاجلا، وأن عبور الحدود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإدارية مؤشر على بداية تشكل بنية دولية يجب أن ننظر إلى ساريتها المُطلة من فوق موجات البحر السياسي لنعرف كيف نستعد لها وننخرط فيها، رغم الألم الذي سيرافق رحلة الانفصال عن الوجدان التاريخي، لأن التمترس عند أطلال التنظيمات القديمة لن يزيد مجتمعاتنا إلا دما ودموعا…
لكن هذا الارتحال يحتاج لوعي عميق وتحدٍّ لثقافة الأطلال وغريزة الدافع المكاني كما سماها لوزينز في دراساته الإثولوجية… ويبقى التغير والتجديد في المنظومة المعرفية (النظرية والتطبيقية الاجتماعية والإنسانية والتقنية) هو الرابط بين كل هذه المراحل، ومن العسير فهم القادم بمعزل عن هذا الرابط… وهي عجلة الرحيل المواكبة لرحلتنا الإنسانية… وعليه:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل