االإعـلام الساخـر التقليـــدي انتهـى
النكتــة مقاومـة داخلية حـتى لا يسقـطـ الفــرد مـن القهـر
الشعــب الجزائــري عــاد إلى الضحــك بقــوة
عمّار يزلي أستاذ علم الاجتماع بجامعة وهران، هو واحد من أبرز الكتّاب الساخرين، عرفه الجمهور الواسع في بداية تسعينيات القرن الماضي عندما رأس تحرير جريدة «الصح آفة» ذائعة الصيت وكان ينشر فيها زاويته الأسبوعية «سيرك عمّار».
على مسافة بعيدة من تلك التجربة الاستثنائية في تاريخ الصحافة الجزائرية، يحدثنا يزلي عن واقع الصحافة الساخرة وتحدياتها في زمن «الميمز» وعن سر «عودة» الجزائري إلى النكتة وهو الذي قيل إنه شعب «لا يضحك» كثيرا، وعن بعض القضايا ذات الصلة.
كيف تقرأ ظاهرة «الميمز» في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، وهل قضت الصورة من خلالها على الكلمة المكتوبة مهما كانت بلاغتها؟
صحيح أن الصورة أبلغ من ألف كلمة، وأن الصورة اليوم صارت موصلا وحاملا معرفيا وفينا مؤثرا بسبب انتشار وسائل ووسائط الاتصال الاجتماعي، كون الصورة تختزل وتحمّل أحمالا أثقل وأشمل من الكلمة، التي علينا أن نفككها سميولوجيا دون أن نتمكن من إدخال الجانب الحسي فيها، أي أن الكلمة هي أكثر تجريدا من الصورة بما يجعلها موصلا أقل حمولة وفاعلية: الصورة، بالإضافة إلى الحمولة المعرفية وما تحمله من رسائل مشفرة مرمّزة، ودلالات سميولوجية، وإحالات مرجعية فكرية وسيكولوجية واجتماعية وثقافية، تحمل الجانب الحسي الحواسي الناتج عن الرؤية البصرية، وهو عنصر حسي مهم ضمن الحواس الخمس، لأن التجريد صعب خاصة لدى الشرائح العمرية دون الأربعين أو ما فوق السبعين.. أو لدى الفئات الاجتماعية الأقل قدرة على التجريد والأقرب إلى التجسيم والتجسيد. لهذا الصورة اليوم تبدو طاغية كميا في هذا المجال. غير أن هذا لا يعني انتفاء أو تضاؤل قوة الكلمة.. لأن الكلمة ستبقى في المنتهى كما كانت في المبتدأ.. فالبدء كان كلمة.. وليس صورة.. ومهما طغت الصورة فستبقى اللغة والكلمة والتعبير الكلامي.. المهيمن. الصورة، ما هي إلا رمزا للكلمة.. تماما مثل ما هي الكلمة المكتوبة رمزا للكلمة الشفوية، وبالتالي، فالصورة تأتي لا لتزاحم الكلمة، بل لتقويها وتستعين بها لتقوية الحمولة المتضمنة في الرسالة الكلامية.. عبر الرسالة الإيقونة البصرية..
وماذا عن الصحافة الساخرة، هل انتهى عصرها؟
أعتقد أن لكل وقت وسائله في التعبير والتواصل: التغير الاجتماعي يجعل من الإنسان متغيرا بالفطرة ومغيرا بالفطرة أيضا.. فهو يغير بالتغير ويتغير بالتغيير. فهو مركز الفعل التغييري عادة، إلا في حالات التغير القهري الخارج عن إرادة الإنسان.. لهذا نتحدث عن التغير عندما يكون الفاعل مجهولا، فيما التغيير لما يكون التغير مرتبطا بفعل الإنسان ومساهمته في هذا التغيير.
لكل زمن ووقت أدواته في التعبير والتواصل، نلاحظ تطور ذلك عبر تاريخ تطور وسائل الاتصال، ليس ذلك فحسب، بل تقنيات وأشكال التعبير والاتصال، لكن دون أن يلغي الجديد القديم، بل بسيطرة الجديد عدديا وكميا لكن ليس بنفي القديم. فإلى الآن مازلنا نستعمل الرسائل البريدية ونستعمل الهاتف الثابت ونستعمل الكتابة والرسوم الجدارية التي هي أولى أشكال الرسم والكتابة على جدران الكهوف والمغارات.. لا بل أكثر من ذلك لا زلنا نستعل الكتابة والحروف التي هي أقدم وسيلة اتصال مع الغائب غير الحاضر، الذي بدأ الإنسان باستعمال وسائل التواصل فيها عن طريقة اللغة الشفهية.. الشفهية للتواصل مع الحاضر مع الحضور، لكن مع الغائب، البعيد غير الحاضر أو المجهول، بدأ الإنسان بنقل الرموز الصوتية الشفهية إلى رموز مخطوطة، بدأت رسما تجسيديا لحيوانات عادة وانتهت تجريدا. فحرف ألف.. أو A.. في معظم اللغات.. هو في الأصل كلمة «آليف» في اللغة الأرامية أو «آلوف» في اللغة السريانية.. وتعني في كلاهما «الثور».
أصبح الحرف الأول في الأبجدية العربية ثم في معظم الأبجديات رمزا لكلمة ثور.. لكن اليوم لا أحد يعرف في العربية ولا في اللغات الأخرى معنى «ألف».. وحتى في اللغات الهند أوروبية.. نقلا عن الحرف A، المائل المفتوح باتجاه اليمين.. في اللغة الفينيقية التي منها نقل إلى الإغريقية.. ونطق بها في شكل Alpaha، هو ذات الاسم الأرامي السرياني.. الذي يعني الثور.. بل أنه يرسم في شكل رأس ثورة بقرنين كان في البداية في الأرامية يكتب مقلوبا بقرنين إلى الأعلى ثم بقرنين باتجاه اليمين في الفينيقية ثم بقرنين باتجاه الأسفل في اللغات ذات الأصول اللاتينية والهند أوروبية اليوم.. نفس الشيء بالنسبة لكل الحروف الأبجدية أصل تسميتها هي أسماء حيوانات أو أشياء.. ثم تحولت إلى رمز لحروف في لغات أخرى.
وسائل التعبير والاتصال والتواصل تتغير وتتطور بتطور الإنسان نفسه.. لهذا، عودة إلى السؤال، الصحافة الساخرة لا يمكن أن تزول، بل تتبدل وتتغير في الشكل والوسيلة أي الثوب الحامل، لكن السخرية لن تزول، لأنها من جوهر وظائف الإنسان مثله مثل اللغة. الإنسان حيوان عاقل حيوان لغوي.. حيوان ناطق.. حيوان عامل.. وأنا أقول أن الإنسان حيوان ضاحك.. الضحك والكلام والفكر هي عناوين الإنسان.
عندما نتكلم عن الصحافة الساخرة، نقصد بها الشكل التقليدي، هل انتهى هذا الشكل؟
الإعلام الساخر التقليدي سينتهي وقد انتهى في رأيي.. بانتهاء عهد الورق لكنه لن ينتهي.. مع العهد الرقمي، سيتغير شكلا ووسيلة وتقنية، لكنه سيبقى، بل أقول إن الإعلام الساخر أو لنقول التعبير الساخر، مهما كان إعلاما أو صحافة أو تعابير اجتماعية، سيتطور وسينتشر أكثر فأكثر وبسرعة، وإنه الآن يفعل ذلك باضطراد؛ ذلك أن الإعلام برمته قد بدأ يتغير بتدخل وتداخل وسائط الاتصال الاجتماعية.. التي تكاد تقضي على الإعلام التقليدي، لكن دون أن تساويه في دقة المعلومة وفي أخلاقيات العمل الصحفي والمهنية.
أتصور أن الصحافة الساخرة، تتجه نحو شعبية أكبر؛ بمعنى أن كل فرد يمكنه اليوم أن يكون معبرا ناشرا وساخرا دون التقيد بصحيفة أو جريدة ورقية كانت أو رقمية.
ولأن التعبير والضحك والفكاهة وكل المسميات المرتبطة بالضحك، هي من الإنسان وبه.. فإن السخرية اليوم تعود بسرعة إلى الأصل.. المنبع وهو الإنسان الذي أصبح اليوم بمقدوره أن ينشر ويرسم ويكتب ويقول، صورة وصوتا وكتابة كل ما يريد أن يقوله، خلافا عما كان عليه الأمر قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وعصر الانترنت للجميع..
ألم تلاحظ أن الظاهرة تجاوزت الكتابة إلى الكاريكاتور الذي لم يعد أبناء الجيل الجديد يهتمون به، هل انتهى عصر الصحافة بكل أشكاله؟
قبل عصر أو لنقول.. ثورة الانترنت والأجيال المتعاقبة فيها، الجيل الأول وصولا، قريبا، إلى الجيل الخامس.. لم تكن الصورة مهمة بقدر الكلمة، لسهولة توصيل الكلمة على الصورة.. أنت تستطيع هاتفيا قبل 30 سنة أن توصل كلمة إما مكتوبة أو هاتفية إلى أقصى مكان، لكن الصورة لم تكون بالقدر نفسه في سرعة الوصول والتوصيل والتواصل.. حيث نتحدث اليوم عن اللحظية أو الآنية في التوصيل خبرا كان أم معلومة أم حدثا.. لهذا كانت الكلمة لها بلاغة قصوى.. لكن مع ظهور الصورة، خاصة الملونة والمتحركة.. (وهذا حتى تاريخيا مع ظهور المطبعة ثم الصورة بالأبيض والأسود ثم الملوّنة ثم الصورة المتحركة.. إلخ..).. صارت الصورة اليوم أسرع وأسهل أحيانا أقوى على التعبير بل على الإقناع.. الصورة نراها.. ونجزم أنها فعلا موجودة كفعل أو كحدث.. لكن الكلمة قد تكذب أو قد تغالي أو تزايد أو تناقض أو تشوش.. لهذا السبب باتت الصورة اليوم تتغلب في كثير من الأحيان على الكلمة دون أن تلغي الكلمة وثقلها التوصيلي والإقناعي..
تصور معي، أنه الآن يمكن للصورة أن تكون مفبركة فيديو كان أم صورة ثابتة.. فاللغة وحدها يمكن أن تفضح ذلك.. فالصورة ليست الأصل، بل وسيلة وتقنية مساعدة.. وتبقى اللغة والكلام هو الأصل.. واللغة واللسان لن ينقطع.. سيجد كيف يعبر ويتواصل مع الجميع بلغة مشفرة رمزية عالمية، لكن الكلم سيبقى بقوته لأنه الأصل.
الصحافة الساخرة التقليدية ستزول إن لم تكن قد زالت مع زوال كل الأشكال التواصلية التقليدية مع عصر الرقمنة للجميع.. لكننا اليوم نعيش ميلاد عصر جديدة من السخرية.. الشعبية.. وهي عودة إلى التنكيت والضحك بين الأفراد.. لكن هذه المرة.. ليس شفهيا فحسب، بل عبر حامل عالمي هو شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.. إذن، عمليا، ماذا يحصل الآن؟.. ما يحصل هو أن التعبيرية الشفهية قد تحولت إلى تعبيرية افتراضية أشمل وأوسع؛ بمعنى أننا نقلنا المحلي إلى العالمي في كل المجالات من السخرية إلى الأكل إلى الأخبار الباهتة في دوار.. إلى أخبار الدار وجبات أكلات المطبخ.. وحولناها إلى مادة إعلامية تواصلية تداولية في سوق دولية افتراضية.. حتى الإشاعة التي كانت شفهية محضة، صارت اليوم تعبر وتنشر في شكل صور مفبركة وفيديوهات وأخبار مكتوبة أو مصورة أو صوته ملفقة.. بما يجعل هذا العصر عصر العودة إلى الشفهية.. ولكنها مطورة لأنها مكتوبة ومصورة.. ومنشورة على أوسع نطاق من المعمورة.
قيل قديما إن «الجزائري لا يضحك ولا يصنع النكتة». لكن الواقع الجديد بيّن عكس ذلك، فالإبداع في السخرية لا ينتهي/ كيف تقرأ هذا التحوّل؟
هذا صحيح تماما.. كان يقال عنا بعد الاستقلال، خاصة من قبل إخواننا في مصر، وهو شعب نكتة بامتياز.. كان يقول عنا إننا شعب لا يضحك.. وكان هذا فعلا. لم نكن إلى غاية بداية الثمانينيات نضحك كثيرا وننكت بالقدر نفسه الذي هو عليه الحال اليوم.. النكتة عندنا كانت قليلة وذات منحى خشن عنيف عنف الرضوض والكدمات التي اكتنزها الشعب الجزائري خلال حرب التحرير وقبلها في دواخله. شعبنا بعد الاستقلال كان يضحك قليلا.. مخافة أن يبكي كثيرا.. حتى أننا كنا حين نضحك في جماعة على نكتة أو قصة.. كنا نقول في الأخير: «الله يخرج هذا الضحكة على خير».. كان الضحك شبه ممنوع من الداخل، كنا نخاف من الضحك، بل لا نقدر عليه.. أقول هذا ليس تعميما، لأن الضحك كان كثيرا ولكن مواضيعه عادة ما كانت تدور حول الألم.. أو ضحكا تقليديا نقلا عن شخصية جحا التي كنا نحملها كل المفارقات: الدهاء والحكمة ولكن أيضا البلاهة والغباء. الضحك كان ردة فعل لتجاوز القهر والاحتقان والظلم ونوع من التخفيف والمتنفس التعبيري عن الكدمات الداخلية في شعب مأزوم داخليا، لكن الضحك وخاصة النكتة، ستتغير وتتحول إلى نكت اجتماعية ساخرة من الوضع السياسي والاجتماعي بشكل عام، إقليما ومحليا.. خاصة منذ الثمانينيات، وأنا قد أعددت دراسة قد تنشر في كتاب حول السخرية السياسية في الجزائر والعالم العربي وتتبعت مسار النكتة السياسية ووجدت أن معظم النكت قيلت في عهد حكم الرئيس الشاذلي، رحمه الله.. وعنه.. بمعدل يفوق 80%.. رغم أن موضوع الأسئلة الميدانية كانت حول النكتة في عهد الإرهاب.
ما حدث، أن الشعب الجزائري، عاد إلى الضحك بقوة.. ولا نقول عاد للضحك كأنه لم يكن يضحك.. عاد ليقاوم.. لأني أعتبر النكتة مقاومة داخلية حتى لا يسقط الفرد من القهر.. فنحن نضحك عن همومنا وعن أنفسنا.. حتى لا نسقط ونصعق.. فهي تقوية نفسية وصمام أمان أمام السقوط.. ألا يقال إن «من الهم ما يضحك؟.. كما أعتبر أن الشعب الذي ينكت كثيرا هو شعب قوي، مقاوم، لا يريد السقوط.. أنه يقاوم.. سلميا وفنيا وتعبيرا كل أشكل الظلم والهيمنة.. وهذا ما نلمسه في الشعب المصري.. أنه يقاوم عبر كل الأشكال بما فيها الضحك والتنكيت عن الوضع وعن نفسه.. وعن همه… يقاوم إلى أن يأتي وقت الحق.. وهذا ما لمسناه في بحوثنا عن المقاومة بالسخرية أثناء الاحتلال. السخرية كانت شكلا حاضرا ومنتشرا إلى غاية اندلاع الثورة، ثم خفت أثناء الثورة طبقا لقول الشاعر:
«السيف أصدق إنباء من الكتب.. في حده الحد بين الجد واللعب»..
كنا قبل الثورة في مرحلة مقاومة بكل الأشكال.. وأثناء وبعد الثورة.. صدمنا وأحدث فينا فعل الثروة والهمجية الفرنسية رضوضا مرضية قهرتنا.. مثل أي مصاب يصاب بأزمة وكدمات نفسية ورضوض لن يخرج منها بسهولة ولا بسرعة… وهذا ما يحصل معنا اليوم.. إذ نلاحظ اليوم.. انفجارا للضحك.. انفجارا بالضحك.. أنها تشبهة القهقهة العالية التي توحي بأن صاحبها مهموم ومحتقن وأن انفجاره ضحكا هو انفجار لضيق في داخله أفرج عنه كمكبوت أخرج للعلن.. أو كما يسميه النفسانيون.. «تابو» أخرج من العقل الباطني للعقل الواعي… وهذا كله يعود للأزمات المتتالية والمتراكمة التي عانى منها ولا يزال الشعب الجزائري وهو يقاوم لكي لا يسقط.. فأنت حين تسأل أحدهم لماذا تضحك؟ يقول لك:.. حتى لا أصاب بالاكتئاب.. خاصة وهو يعيش من سنوات تروماتيزم.. متعدد الأوجه لا ينفس عنه إلا من خلال التنكيت والضحك على الهم.. في انتظار أن تنفرج…
كثير من المبدعين الجدد في السخرية، أناس مجهولون أو من «عامة الناس»، هل أصبح المثقف مجرّد مستهلك لما ينتجه المجتمع في هذا العصر الجديد؟
النكتة، كانت دائما من الأدب الشفهي.. مجهول المبدع والمنتج، المتوارث عن طريق المشافهة. غير أن نكت اليوم أصبحت مكتوبة ومصورة، صورة ثابتة كانت أم متحركة. صور محولة، مونطاج لصورة ورسم وفقاعات حوارية.. لا نعرف في غالبية الأحيان هوية منتجها أو مسوقها..
تلاحظ معي كيف أن إعادة النشر أو ما يسمى بالاقتسام.. البارطاج.. مجاني، لا يراعي حق الملكية، لأنك أنت حين تنشر في العادة صورة أو نتاج خبرا نكتة.. أو تذكر بنكتة صورة كانت أو مكتوبة أم ناطقة ومصورة أم ناطقة فقط.. فأنت تقوم بالفعل نفسه سابقا في نشر النكتة عن طريق البوز.. Buzz، أي التوزيع من فم لأذن.. لكن هذه المرة على نطاق أوسع.. بفعل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الهواتف الفردية الذكية، حيث أصبح كل فرد منتجا، موزعا ومتقاسما ومشاركا فاعلا… بعيدا عن النخب وبعيدا عن المثقف المبدع.. الذي أصبح فقط جزءا من هذا الكل.. وسط ضوضاء الإبداع الشعبي العارم. المثقف المبدع، المهني، الحرفي، هو الآن جزء من كل.. ربما نسمي هذا الجو بالديمقراطية الشعبوية.. الافتراضية؟ لأنها سمحت للجميع أن يكون مبدعا ومنتجا ومعلقا ومعيدا وبائعا ومشتريا.. أي فاعلا ومتفاعلا.. هذه التفاعلية الافتراضية لها فاعليتها الآنية المرحلية.. فهي تعمل على رواج الإنتاج.. إنتاج للسوق.. مهما كان طبيعته ودرجة جودته.. لهذا تجد في سوق التواصل الاجتماعي الغث منه أكثر من السمين وتجد الشعبوية.. طاغية.. لأن ذلك هو انعكاس لشعبوية مهيمنة في الواقع. المثقف الواعي، المبدع المفكر لم يعد مجاله هنا سوى دراسة هذا التوجه العام الشعبي التجاري التبادلي.. التي صار يمثل الصحافة الصفراء اليوم.. إنه لا يمثل الصحافة ولا الإعلام.. لافتقاره إلى المهنية وأخلاق المهنة وضوابط المهنة، لكنها منابر ووسائط لأشكال تعبيرية قديمة في ثوب جديد، لا يمكنها أن تزيح المثقف.. بل تريحه.. لأنه سيجد فيها مادة لإبداعه فيما بعد.. لأن المفكر المبدع لا يفكر في اللحظة الآنية.. بل يفكر.. فيما قبل… وفيما ولما بعد.