نتناول في هذا الحوار الفكري والمعرفي مع المفكر والكاتب البروفيسور حبيب مونسي، مآلات العصرنة من تشويه للتاريخ، تقزيم التراث، هدم القيم، وتعتيم صورة المستقبل، وإحلال النّموذج الغربي على أنّه النّموذج الوحيد الذي يليق بالإنسانية، وأنه لا خلاص لها إلاّ به، وأنّه لا مفر من ذلك، وحتى تتمكّن المفاهيم الجديدة من العبور إلى العقل العربي والإسلامي، فتبطل فيه حاسّة المقاومة والصّمود.
كلّ الذين أنكروا من قبل مخططات الغرب تجاه المنطقة العربية خاصّة والإسلامية عامة، واتهموا من يعتقد ذلك بأنّه من المؤمنين بنظرية المؤامرة، يعودون اليوم أمام الخراب الحاصل في البنيات السّياسية، والاجتماعية والدينية العربية إلى مراجعة مواقفهم، والإيمان بأنّ الغرب ماضٍ من سبعينيات القرن الماضي في خطة تفتيت الشّرق، وخلق كيانات سياسية هشّة، على رأسها نخبة من المدجنين، بحسب شيخ النقاد المحدثين، الباحث حبيب مونسي.
– الشعب: تعيش الأمة العربية قاطبة أرهبة الفقه وانتشار الكراهية بين شعوبها وصل إلى نبذ الأديان، في رأيكم هل هي ملامح لأفغنة المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر؟ أم تفتيت وتفكيك أنظمة الصمود والتصدي في وجه النظام الدولي الجديد، «سوريا، العراق، مصر، الجزائر، تونس، اليمن، ليبيا «نماذجا»؟
البروفيسور مونسي حبيب: كلّ الذين أنكروا من قبل مخططات الغرب تجاه المنطقة العربية خاصّة والإسلامية عامة، واتهموا من يعتقد ذلك بأنّه من المؤمنين بنظرية المؤامرة يعودون اليوم أمام الخراب الحاصل في البنيات السّياسية، الاجتماعية والدينية العربية إلى مراجعة مواقفهم، والإيمان بأنّ الغرب ماضٍ من سبعينيات القرن الماضي في خطة تفتيت الشّرق، وخلق كيانات سياسية هشّة، على رأسها نخبة من المدجنين، لا تملك يقينا سياسيا، ولا إيديولوجيا ولا دينيا، وإنّما ينحصر همّها في التّأقلم مع المستجدّ في السّاحة السّياسية العالمية. وها هم اليوم يرون كيف انتقل التّفتيت من البنيات الفكرية، إلى البنيات المادية من خلال الحروب الجيبية التي تُدار بالوكالة، أو عن طريق الضربات الجوّية المباغتة.
هدفها القضاء على البنيات التّحتية التي يمكن أن يُقام عليها كيان يقف في وجه قوى العولمة، والنظام العالمي الجديد، وها هم يشهدون مرة أخرى آخر الجبهات التي كان يُظن أنّها قوية بما فيه الكفاية، وهي قوى العلماء، والدعاة، تنقلب على شعوبها بأمر الحاكم تفسِّق، وتبدِّع، وتخرج الجماعات من الملّة، وتتَّهم أخرى بالإرهاب.
فالذي يتدبر الواقع الآن يجد نفسه أمام مخطط أكثر دقّة مما كانت عليه مخططات القرن الماضي، ذلك لأنّ الغرب ماض في تفتيت الشّرق، وتفتيت دينه، وثقافته، وسيعمل «الكوفيد» بطريقة علنية على قتل أواصر القربى، واستبدالها بجديد، يزيد من غربة المجتمعات العربية وتشتُّتها. وخلق حساسيات هوياتية تنتهي إلى كراهية الآخر، ونبذه، واتهامه بكل سوءات الاستعمار ونقائصه. فقد أفلح الأمر في العراق، سوريا، اليمن، لبنان، ليبيا، الجزائر، المغرب. إلى درجة إعلان الانفصال والاحتراب.
– ظهرت مليشيات إقصائية عدوانية عوض مدارس فكرية حديثة تدافع عن قيم وهوية الأمة، فأجهزت على تراثها، ونقلت فقه الحوار والمناظرات والتأليف والاجتهاد إلى حلبات الصدام الدموي الذي يستحضر مرجعية دينية مزيفة، تجاوزت حقيقة الدين ومقاصد الشريعة نفسها كيف نعيد ملامح الإنسانية لمدارسنا ونستعيد هيبتها المستبدة؟
كان المستوى ما قبل الأخير من مخطط تفتيت الشرق «ونقصد بالشرق العالم العربي والإسلامي مجتمعين» هي الوصول إلى مستوى الاحتراب من أجل الهوية، ثم من أجل الطّائفة، ثم من أجل الدّين. ثم من أجل الجماعة، ثم من أجل الانتماء إلى شيخ أو طريقة لقد كانت هذه الخطّة مدروسة من قبل مخابر الاستخبارات أو في مخابر الجامعات، والجمعيات، من طرف علماء الاجتماع، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس. لإدراكهم أنّ هشاشة الإنسان العربي والمسلم الخارج من عصر الاستعمار المشبَّع بمفاهيم مشوَّشة عن الحرية، والديمقراطية، والهويّة، والانتماء، والوطنية، لن يجد راحته إلاّ في محاولة بسط فهمه على غيره من بني جلدته، إمّا رضا أو قهرا وعملت الدوائر الاستخباراتية على تأجيج ذلك كلّه باسم الدين، أو الطائفة أو غيرها. كما استخدمت العلمانيين من المسلمين والعرب في طابور خاص للتشكيك في التاريخ، والتراث، والقيم، وتعتيم صورة المستقبل، وإحلال النّموذج الغربي على أنّه النّموذج الوحيد الذي يليق بالإنسانية، وأنه لا خلاص لها إلاّ به، وأنّه لا مفر من ذلك وكان هدفها بناء جسور فكرية بين التّراث والعولمة حتى تتمكّن المفاهيم الجديدة من العبور إلى العقل العربي والإسلامي، فتبطل فيه حاسّة المقاومة والصّمود.
– بحكم أنكم أستاذا في الجامعة، تعيش الكتابات العربية غربتها الهوياتية، هل هو خوفا من سلطة النقد لأنها لم تكن عاكسة لواقعها ومدافعة عن كينونتها؟ أم أنها تخضع للأمر الراهن واستسلمت للحتمية المادية؟
ما ذكرناه سابقا لن يترك مجالا من مجالات الحياة في الواقع العربي، إلاّ وارتسم عليه ارتساما مباشرا فأنت ترى الجامعات في البلدان العربية، لا تنتج فكرا ولا تحلم بأن يكون لها من أبنائها مفكرين فاعلين في الساحة الفكرية والسّياسية، لأنّها لم تزوِّد واحدا منهم ليكون له ذلك المطمح. فقد تحوَّلت بفعل أنظمة مستوردة إلى ورشات تكوين لليّد العاملة المختصة التي تعرف تسيير الأدوات فقط فالنّظام المتّبع اليوم، حتى وهو يوزِّع الشّهادات على النّحو الذي نرى لن يخرج إلاّ تقنيين في تخصّصاتهم العلمية أو الإنسانية همُّهم إدارة المجال الذي ينتمون إليه إدارة رديئة بما يتساقط إليهم من موائد الغرب من نظريات ومناهج وأدوات فمن ثمانينات القرن الماضي جُرِّدت المدرسة أولا من مناهج التّفكير والإبداع واستبدَلَت مكانه آليات التّحصيل وتطوير المهارات من أجل خلق العامل المختصّ فقط ثم جاء دور الجامعة لتُكمل المشوار مع نظام فتَّت الكتلة الطلابية التي كانت تتلقّى المحاضرات والتطبيقات إلى أفواج تتلقى تطبيقات وهي معزولة عن بعضها بعض فلم تختلف عند الطالب الحياة في الثانوية عن الحياة في الحرم الجامعي في شيء. بل غابت عنها الاستفادة من الأساتذة الآخرين بحكم انغلاقها في أفواج، وانسدادها في نظام توقيتي حرج لا يسمح لها بالتّجوال داخل الحرم الجامعي بحثا عن محاضرة أو درس، أو ندوة، أو نشاط معرفي أو علمي طلابي.
هذا الوسط هو الذي خرج منه كتّاب الشّعر «أقول كتّاب الشعر ولا أقول الشّعراء» والرّواية، والمقال. خرج منه كتاب النّقد «أقول كتّاب النّقد، ولا أقول النّقاد» والكل لا يحمل في نفسه فسحة لقبول الآخر ولا فرصة لإرهاف السمع إليه، ولا قدرا من الاحترام لآرائه ومواقفه. جيل ليس في مقدوره أن يقدر الكبار من كتّابه وعلمائه، ولا أن يفسح المجال لأمثاله في زحمة المرور إلى الشّهرة والاعتراف. ولن يجد النّقد في مثل هذه الأجواء ما يرسو عليه حتى يقيِّم ما بين يديه من نصوص، تنمو كالفطريات هنا وهناك.
– الصناعة السينمائية الجزائرية، لم تستطع مواكبة المشهد الثقافي وفشلت في تحقيق الوثبة الثقافية رغم وجود الأموال؟
الذي يحدث على مستوى النّص، يحدث مثله على مستوى السّينما. فقد ترك الاتجاه اليساري أثرا بالغا في السّينما والمسرح، وكبّلهما بواقعية جوفاء، راحت تجتر خطابات الحزب، وتردد مفاهيم الثورة، وما تمليه الأنظمة في البروباغوندا، ولم تستطع أن تصنع نموذجا للبطولة خارج إطار رؤية الحزب، وماضي رجالاته ومن ثمّ كانت النّصوص التي اعتمدت عليها السّينما هي نصوص الأدب الواقعي اليساري الذي ظلّ يردّد الحوار عينه فلم يستطع أن يخرج عن إطار واقع الفقر والدّشرة والرّيف والمدينة الجديدة بل سجن الحاضر في زنزانة الماضي فلم يقدر على كسر أقفالها والملاحظ اليوم فيما يُنتج من أفلام جزائرية في فرنسا مثلا، وكأنّه ردّة على ذلك الاتجاه تخرج فيها السّينما من أسرها لتتناول ما تعتبره طابوهات تتصل بالإنسان والوطن والدين والانتماء غير أنّها هي الأخرى واقعة تحت سيطرة اتجاه لا يريد منها غير إبراز العيب على أنّه عيب يجب التّخلص منه وأنّه مرتبط وجوديا بالمعتقد والتراث الذي يجب التّخلص منه بكل الطّرق. هذا الطوق لن يكسره سوى أدب ريادي ينتقل من مرارة العرض الواقعي، إلى رحابة التّحليل والتّدبّر في أمر الواقع بما يحمله من مؤشرات يمكن استثمارها في المستقبل فليس الأدب للمتعة، وإنّما الأدب للمستقبل.
– يعيب الأدباء الشباب على غياب المرافقة النقدية لكل ما ينشر في الملاحق الأدبية أو الإصدارات المختلفة، فهل تعاني الحركة الأدبية الجزائرية من نفس المعضلات؟
النّقد غائب وسبب غيابه غياب النّاقد نفسه فليس في الجزائر نقاد، وإنّما هناك من يحفظ النّظريات النّقدية ويردّدها بمهارة وحافظة جيدة. أما النّقد فإبداع هكذا قالت النّظريات الغربية من زمان ومعنى الإبداع في النّقد أن ينتقل النّاقد من مرحلة الحفظ والتّرديد إلى مرحلة إنشاء منظومات فكرية، وجمالية، وقيمية، يتحرك داخلها وهو يحاور النصوص هذه المنظومات التي نتحدث عنها لا يجدها في كتاب واحد، وإنّما هي تأليف خاص بالنّاقد، يبدأه بالتّحصيل، ثمّ الممارسة، ثمّ الانتهاء إلى الشّعور بأنّه يحمل في ذاته رؤية غاية في الاكتمال تمكِّنه من تمييز الحسن من القبيح، والجيد من المرذول، وتمكِّنه أن يبصر في الصّنيع الأدبي إمكانات تتجاوز إطاره الفكري، فيسعى وراءها لتأطيرها معرفيا وجماليا هذه الحركية في النّاقد لا نجدها أبدا في من يكتب المقال أو يناقش رواية، أو يحلّل نصّا شعريا، لأن الذين يفعلون ذلك مسكونون بهاجس المنهج، فهم رهينة لفهم خارجي يفرض عليهم السّير داخل أنساق محددة سلفا.
– بما أنكم في حقل البحث الأكاديمي، ما هو حظ النصوص الجزائرية من الدراسات الاكاديمية في رسائل ما بعد التدرج؟
كنت أطالب دوما طلبتي في الدكتوراه والماجستير والماستر بالعمل على النّصوص الجزائرية وكان ردّ بعض الزّملاء أنّه لا توجد دراسات يمكن للطالب الاستناد إليها وكان هذا هو العائق الذي يصرف الطّلبة عن النّصوص الجزائرية لعدم وجود دراسات أنجزت عن هذا العمل أو ذاك لأنّنا عوّدنا طلبتنا النّقل، ولم نعودهم الاستفادة من النّظريات ثم الاقتراب من النّص بهذه الأدوات، ليكون لهم سبق المبادرة في تحليل ذلك النّص: أسلوبيا أو بنيويا أو سميائيا… كانت هذه العقبة ولا تزال هي الصّارف عن النّصوص الجزائرية لأنّنا لم نخلق فيهم روح النّاقد الذي يعرف كيف يستخدم الأداة، وكيف يجريها في النّص، وكيف يستثمر ذاته وذوقه وإطاره الفكري في التّحاور مع النّص كل ما صنعناه أنّنا طلبنا منه أن يقلد غيره.