عندما كنت أعمل أستاذا في جامعة الجزائر، التقيت في مناسبات عدة (ندوات وحلقات تلفزيونية، ولقاءات شخصية) بالمرحوم سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري وصانع خطة هجوم حرب أكتوبر عام 1973، ونمت صداقة بيننا، وفي أحد الأيام سألته عن مسألة كنت قد كتبت عنها خلال إعدادي لرسالة الدكتوراة، وهي أن محمد حسنين هيكل كتب أن أحد أسباب الخلاف بين مصر والاتحاد السوفييتي، هو أن الخبراء السوفييت كانوا يشترون كميات كبيرة من الذهب بشكل خلق أزمة اقتصادية في مصر، فقال لي الشاذلي: عندما أثير هذا الموضوع تم تشكيل لجنة برئاسة الشاذلي وعضوية رئيس الاستخبارات العسكرية المصرية ومدير الجمارك في مطار القاهرة، ومدير الجمارك في مطار موسكو، وقائد القوات السوفييتية في مصر (وكان عددهم عشرين ألفا)، ونقيب الصاغة (بائعي الذهب في مصر… لأن كل عملية بيع ذهب يتم الاحتفاظ بنسخة من فاتورة البيع)… وكانت نتيجة التحقيق بعد سبعة شهور، هو أن مجموع مشتريات الذهب من الخبراء السوفييت لم يبلغ كيلوغراما واحدا (914 غراما فقط)…
الواقعة الثانية، أرسلت بحثا لمجلة شؤون عربية- التي تصدرها جامعة الدول العربية- وكانت تصدر من تونس، وكان رئيس التحرير الدكتور هيثم الكيلاني، وكان موضوع البحث عن تأثير التكنولوجيا على العلاقات الدولية، وقد جاء في البحث العبارة التالية: «أن التكنولوجيا أفقدت مفهوم العمق الاستراتيجي معناه وأهميته، بدليل أن الأسلحة النووية قادرة على ضرب أية نقطة في العالم، كما أن العراقيين ضربوا تل أبيب بالصواريخ من مسافة تبلغ مئات الكيلومترات»، فأرسل لي الكيلاني يقول: «حبذا لو تحذف العبارة الخاصة بالعراق»، فرددت عليه كيف تطلب مني حذف واقعة شاهدها معظم سكان العالم على شاشات التلفزيون ثم تطلبون منا أن نصدق ما يروى في التاريخ الإسلامي الذي لم نحضره ولم نشاهده»… وطلبت وقف نشر الدراسة.
ذلك يعني أن لكل واقعة تاريخية أكثر من رواية، وأحيانا تتباين الروايات نتيجة الهوى والانحياز (كروايات السنّة عن الشيعة والعكس صحيح)، وأحيانا نتيجة عدم الفهم الدقيق لبعض ظواهر الواقعة (مثل تفسير واقعة عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد) أو تفسير لماذا وضع عبد الناصر أنور السادات نائبا للرئيس قبيل سفره للمغرب وإبلاغ الأمن له باحتمال اغتياله، وأحيانا تغيب الحقيقة في بعض الملابسات، فلا يدري أحد ما حدث، مثل واقعة اختفاء هتلر… فلا أحد حتى الآن يعرف أين هو أو أين دفن… وهو نفس السؤال الذي يطرح حول مقتل الحسين بن علي… فأين قبره الحقيقي؟… لا أحد يعرف تحديدا… فهل هو في مصر أو في العراق أو في الشام… فكيف أصدق الكثير مما قيل عنه إذا كان قبره غير معروف ولا أين جثته… أو مثلا ما هي الدوافع الحقيقية لقتل السادات…؟
أعتقد أن أفضل شيء في هذه المسألة، هو التركيز في تحليل التاريخ على الاتجاه الأعظم (mega-trend) أو الاتجاه (trend)، أما الاتجاهات الفرعية والأحداث (sub-trend: events) فقد تكون أقل جدوى، رغم أن بعض الوقائع قد تشكل نقاط تحول تاريخية، لكن المهم في نقاط التحول هو أنها نتيجة لتراكمات عديدة وطويلة الأجل… وهو الاتجاه الأعظم.
لو طبقنا هذه الطريقة البحثية، فإن الكثير من الملابسات التاريخية تصبح أقل أهمية… بشرط أن نبدأ البحث من نقطة غير منحازة، وليس من موقف مسبق، وبعد أن تبدو لنا الاتجاهات الأعظم يمكن إصدار الأحكام… ودعوني أعطي مثالا واحدا:
خلال بحث أعددته عن بنية التنظيمات والأحزاب العربية وجدت التالي: أن نسبة النساء في المناصب القيادية في الأحزاب الدينية العربية أعلى بكثير جدا من نسبة النساء في الأحزاب العلمانية العربية. فعلى سبيل المثال، في الحزب الشيوعي اللبناني تحتل المرأة ما نسبته 2,6% من المناصب القيادية، بينما تصل النسبة في حزب الله إلى 22,5%، علما أن المرأة اللبنانية حصلت على حقوقها السياسية عام 1953؛ ذلك يعني أن ما تقوله الأحزاب العلمانية العربية لا يوجد له تطبيق في الواقع، والأحزاب الدينية المتهمة بمعاداة المرأة تعطي المرأة أهمية أكثر… فهل نحاكم الواقع استنادا للقول، أم للسلوك؟… الأمر ليس سهلا للإجابة عليه… ولكني تعلمت من البحث العلمي أن كل من يدّعي أن الحقيقة في جيبه هو «واهم… واهم»، فنحن جميعا في دائرة «أعتقد، ويبدو، وربما…إلخ».
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.