تسجّل أسعار بعض المواد الغذائية واسعة الاستهلاك ارتفاعا غير مسبوق، في وقت تشير آخر أرقام الديوان الوطني للإحصاء لتسجيل ارتفاع طفيف في المنتجات الغذائية الصناعية..وبين «جشع» المضاربة والتراشق بالتهم بين أطراف العملية التجارية يبقى المواطن البسيط «يكتوي» بنار الأسعار، ويدفع ضريبة «فوضى» السوق الذي يحتكم لعوامل أخرى تضاف لتذبذب الوضع الاقتصادي.
في جولة استطلاعية على مستوى محلات لبيع المواد الغذائية بالعاصمة، رصدت «الشعب» الارتفاع الذي مسّ أسعار سلع أساسية وواسعة الاستهلاك لدى الجزائريين، في مقدمتها العجائن..ومن دون الإشارة لنوع وتسمية المنتوج، فأنواع المادة المذكورة الأكثر تداولا في السوق وعددها يتراوح ما بين 05 إلى 06، تسجل ارتفاعا في الأسعار يتراوح من 15 الى 30 دج ويصل حتى 40 و45 دج.
انخفاض الاستهلاك اليومي بنحو ثلاثة أضعاف
في محطّتنا بالمحلات التجارية كان لنا حديث مع «أمين – ن»، تاجر تجزئة وصاحب محل للمواد الغذائية بالضاحية الشرقية للعاصمة، والذي أكّد أن هذا الإرتفاع في الأسعار شهد منحنيات تدريجية، ويعود لتراكم زيادات عدة أسابيع إلى الوراء.
أضاف يقول: «نحن تجار التجزئة لا حيلة لنا، هامش ربحنا ثابت متوقف على السعر الذي نستقبل به السلعة، ونحن آخر من يستطيع التحكم في الأسعار..».
وبغض النظر عن تعمّد بعض تجار الجملة رفع هامش الربح خصوصا في مواد تحتكر، غير أنه – يقول أمين – «لا يمكن أن نغفل أن هذه السلع ارتفع سعرها لدى المنتج أو المستورد بحكم عدة عوامل..أتحدّث عن سلع أقتنيها من مصدرها»، مبرزا أن المستويات «الخيالية» للأسعار لا تثقل كاهل المواطن البسيط فقط، وإنما تلحق الضرر حتى بتجار التجزئة، بدليل تسجيل انخفاض يومي للإستهلاك بنحو ثلاثة أضعاف وهو حال تقريبا أغلب المحلات.
زيادات بـ 40 % «ضرب من الخيال»
زبـدي: على الحكومـة كبح «جشع» المضاربة
في حديثه حول الموضوع، يكشف رئيس المنظمة الوطنية لحماية المستهلك، مصطفى زبدي، في تصريحات لـ «الشعب»، أنّ الزيادات في أسعار بعض المواد الغذائية فاقت جميع التوقعات، وبلغت مستويات قياسية تستدعي تحرك الجهات الوصية لحماية القدرة الشرائية للمواطنين .
يرجع زبدي «الارتفاع الجنوني» للأسعار التي مسّت منتجات كالعجائن، وبلغت حسبه ما نسبته 40 %، لعامل المضاربة من قبل تجار الجملة، واصفا هذه الزيادات بـ «ضرب من الخيال»، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمواد غذائية تستهلكها شريحة واسعة من الجزائريين.
ويعزّز زبدي حديثه حول المضاربة بالأسعار على مستوى تجارة الجملة، بالتحقيقات الميدانية التي قامت بها المنظمة، والتي توصّلت إلى أن الزيادات التي أقرّها المنتجون على مستوى المصانع طفيفة تتراوح بين 02 إلى 03 دنانير، ووفقا لذلك لا يوجد – حسبه – أي مبرر لمستوى الأسعار المضاعفة بنقاط البيع النهائية.
ويعود المصدر في هذا الملف للحديث عن أزمة الندرة في مادتي السميد والفرينة التي حدثت منذ عدة أشهر، تزامنا مع أولى أيام اتخاذ الحكومة لتدابير الحجر المنزلي لمجابهة وباء كورونا، غير أنه بعد مرور أسابيع عادت الأمور إلى طبيعتها، ولم نسجّل أي مشكل في توزيع هاتين المادتين، متسائلا عن دور الجهات المعنية المكلفة بمراقبة السوق تجاه هذه الزيادات «العشوائية» التي تستنزف «جيب المواطن».
بمقابل ذلك، يؤكّد رئيس المنظمة الوطنية لحماية المستهلك، أنّ منظمته حذّرت في وقت سابق من العواقب الوخيمة لممارسات غير شرعية كالاحتكار، واستغلال وضع معين من بعض الأطراف لرفع الأسعار، داعيا إلى ضرورة مراقبة السوق وحتى تسقيف الأسعار إن اقتضى الأمر من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطن.
على المنتجين التّصريح بالزّيادات
بولنوار: سكوت المنتج والمستورد يثير الشّكوك
أمام هذه الزّيادات، يطالب رئيس الجمعية الوطنية للتجار، المنتجين بضرورة كشف حقيقة الأسعار لدى خروجها من وحدات الإنتاج، وأكد أنه عندما يسكت صاحب المنتوج يصبح الأمر مفتوح على جميع الاحتمالات، فمن الضروري في مثل هذه الحالات – يضيف – معرفة قيمة الزيادة الحقيقية على مستوى المصنع.
حسب بولنوار، فإنّه قبل إقرار أي زيادات على السلع يتوجّب على المنتجين الإعلان عن قيمة وتاريخ الزيادة مع توضيح الأسباب التي استدعت ذلك، وفي هذه الحالة لن يكون بمقدور تاجر الجملة أو الموزّع المضاربة بالسعر.
ويرفض بولنوار توجيه أصابع الاتهام لتجار الجملة، وتابع قائلا: «من غير المعقول وضع التاجر في قفص الإتهام على أنه السبب الرئيسي للزيادات، في بعض الأحيان يحدث تواطؤ بين أطراف العملية التجارية بدءاً من مصدر السلع حتى لا يعرف مصدر الخلل.
واعتبر من غير المعقول إلزام التاجر بالإعلان عن الأسعار مقابل غض البصر عن المنتج أو المستورد، وواصل قائلا: «قبل أسابيع اتصلنا بمنتجي مشتقات العجائن وممثلين عن أسواق الجملة لنتحقق في الأمر».
الدينار، السميد والفرينة..في قفص الاتّهام
خارج دائرة تحميل المسؤولية وتوجيه أصابع الاتّهامات، يرى بولنوار أن ارتفاع الأسعار مردّه جوانب أخرى موضوعية، في مقدمتها ويشير هنا الى المرسوم التنفيذي مادتي الفرينة والسميد الموجه للتصنيع حتى قبل دخوله حيز التنفيذ، بالإضافة الى عامل تراجع قيمة الدينار مقابل الأورو والدولار الذي يبقى – حسبه – سببا رئيسيا في ارتفاع أسعار المادة الأولية للإنتاج أو أسعار المواد الغذائية المستوردة.
فيما أكّد أنه لا يمكن تبرير هذه الزيادات بندرة مادتي السميد والفرينة، يقول متحدّث «الشعب» أنّ جمعيته اتصلت بالديوان الوطني للحبوب ووزارتي الفلاحة والتجارة، وتوصّلت إلى أن المخزون الوطني يكفي ويغطي احتياجات البلاد بوفرة، وإلى غاية الثلاثي الأول من سنة 2021.
وفي حال وجود عوامل اقتصادية تقتصي إقرار زيادة في سعر أي منتوج على مستوى المصانع، أوضح أنه من المفروض نفس الزيادة التي يفرضها المصدر يتم تطبيقها على سعر المنتج لدى نقاط البيع بالتجزئة، وفي هذا الشق بالتحديد، طالب المصنّعين بالكشف عن أسعار السلع لقطع الطريق أمام المضاربة إن وجدت، مؤكّدا أن الأمر لا يتعلق بالعجائن المحلية فقط، وإنما المستوردة ومواد غذائية أخرى كالباقوليات والحبوب.
الأسعار «حرّة»..وعلى المواطن «المقاطعة»
بعيدا عن تحميل المسؤولية لهذا وذاك، يجزم الخبير الاقتصادي عبد الرحمان عية، أنّه يمكن تفسير الزيادات التي طرأت على أسعار المواد الغذائية بثلاثة أسباب رئيسية، الأول يتعلق بانخفاض قيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية المتعامل بها في الأسواق الخارجية، أما العامل الثاني فيخص إجراء طبع النقود بدون مقابل، وهو ما قد يفسر بعض الاختلالات الحاصلة اليوم.
فأمام أي مبررات أخرى – يقول عية – يترتّب عن العاملين المذكورين زيادات معينة، ونسب متفاوتة في جميع الأسعار وليس المواد الغذائية فقط، خصوصا المواد التي لا تخضع إلى الدعم، أي تلك التي تبقى أسعارها حرة مرهونة بمنطق السوق، بحيث تتأثر أسعار السلع في هذه الحالة بطريقة مباشرة بانخفاض قيمة الدينار من حيث استيراد المواد الأولية.
وبالرغم من تأثر الأسعار بعوامل اقتصادية موضوعية، غير أنه لم يخف المصدر وجود ممارسات «المضاربة» لرفع هامش الربح أكثر مما تقتضيه متغيرات السوق، وهو ما يستدعي تفعيل آليات مراقبة السوق بالطرق الودية على اعتبار أن الأمر يتعلق بمواد غذائية تخضع لأسعار حرة، كما يمكن للمستهلك التصرف بمنطق اقتصادي لكبح «المضاربة» عن طريق سلوك مقاطعة إقتناء هذه المنتجات حتى ينخفض سعرها.
تراجع منتجات المصانع
فيما لم ينكر ممثل التجار بسوق الجملة للمواد الغذائية بالعاصمة، ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير معقولة، يرفض توجيه أصابع الإتهام مباشرة للتجار، لا سيما على ضوء ارتفاع أسعار المواد الأولية بفعل إنخفاض قيمة الدينار، بالإضافة إلى قرار السلطات القاضي برفع الدعم عن مادتي السميد والفرينة الموجهة للتصنيع .
وقال مسعودي في هذا الشأن: إن «الارتفاع القياسي المسجل تدخل فيه كذلك عوامل أخرى، من بينها انخفاض الإنتاج على مستوى المصانع بنحو ثلاثة مرات، وهو ما تسبب في حدوث خلل في قانون العرض والطلب..لكن هذا لا يعني تبرئة ذمة التاجر والمنتج».
لا وسطاء في «قوت» الجزائريّين
من جهة أخرى، أوضح المتحدث أنه بمقدور الجهات الوصية تنظيم سوق المواد الغذائية بالشكل الذي يقضي على الفوضى، ويكبح أي زيادات إضافية في الأسعار، ولأنها مواد غذائية أساسية ذات استهلاك واسع يمكن أن تحول من المصانع إلى نقاط بيع نهائية للاستهلاك دون المرور عبر سلسلة الجملة والتوزيع، فحسب مسعودي، يبقى سوق المواد الغذائية يغرق في الفوضى وبعيدا عن دائرة الرقابة الضيقة، وعلى ذلك لا يمكن التحكم فيه إلا إذا وضع تحت مجهر الرقابة.
تحديد هامش ربح «الوسطاء» من المصنع
بالمقابل، يشدّد متحدّثنا على ضرورة اعتماد الشفافية على مستوى مصانع الإنتاج، بدءاً بالإعلان عن السعر وتحديد هامش ربح تجار الجملة أو الموزعين، وأضاف: «في بعض الأحيان حتى تاجر الجملة يجد نفسه ضحية ممارسات غير شريفة تخص توزيع السلع على مستوى المصانع».
في السياق، دقّ ممثل تجار الجملة ناقوس الخطر، وأكد أنه لو يستمر وضع السوق على هذه الحالة سترشّح الأسعار للارتفاع أكثر مما عليه الآن، وتابع قائلا: «أمر الزيادات لا يتعلق بالعجائن فقط، وإنما في الباقوليات، الزيوت النباتية وحتى مواد أخرى كالسكر الذي قفز سعره في الجملة من 61 دج الى 70 دج في وقت وجيز جدا، داعيا المنتجين والمستوردين لضرورة تسقيف أسعار البيع بنقاط التجزئة.
ارتفاع طفيف لأسعار المنتجات الغذائية الصناعية
يشير آخر تقرير حديث للديوان الوطني للإحصاء، إلى أن التباين الشهري لأسعار الاستهلاك بحسب مؤشر الأسعار في شهر نوفمبر 2020 مقارنة بشهر أكتوبر الماضي، سجل تراجعا بـ 0.4 بالمائة.
حسب الأرقام التي قدّمها التقرير، فقد سجلت أسعار المواد الغذائية انخفاضا بنسبة 1،6 بالمائة، نتيجة لتراجع أسعار المنتجات الفلاحية الطازجة بنسبة 3،8 بالمائة.
أما بالنسبة للمنتجات الغذائية الصناعية، فقد شهدت الأسعار ارتفاعا طفيفا بلغ 6 ، 0 بالمائة خلال شهر نوفمبر الفارط، خاصة أسعار عددا من المواد على غرار العجائن الغذائية (+15،5 بالمئة) والكسكسي (+ 7،8 بالمئة) والحبوب الجافة +6،3.