بالكثير من الدقة والعمق والاستفاضة، عكف الدكتور مصطفى ريحي، الخبير في الشؤون الدولية وأستاذ العلوم السياسية، على تشريح تحديات المرحلة المقبلة التي سيتولى فيها الرئيس الجديد جو بايدن الحكم ووفق رؤية استشرافية واضحة.
لم يخف الدكتور أن عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية مبنية على ثوابت، يصعب معها في لغة التحليل السياسي المغامرة بتوقع تغيّرها. وتحدث عن مختلف الملفات التي تعني منطقتنا العربية والإفريقية، ومدى تأثرها سلبا وإيجابا بعودة مرشح الديمقراطيين والفائز بآخر انتخابات أمريكية.
«الشعب ويكاند»: في البداية مع مجيئ «جو بايدن» ورحيل ترامب ما هي قراءتكم لنهج صانع القرار الأمريكي الجديد؟
الدكتور مصطفى ريحي: يمكن تقديم قراءة تقديرية لسلوك صانع القرار الأمريكي، في ظل تغير صور المشهد السياسي مع انتخاب «بايدن» رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية أمام مترشح غير اعتيادي واستثنائي –إن صح الوصف- بالنظر للجدل الذي رافق إدارته لعهدته الرئاسية وأسلوبه في إدارة شؤون الحكم في دولة مارست وتمارس الهيمنة المادية، بل وحتى القيمية على العالم، وهذا ما أثبته التاريخ من حيث تحول مفاهيم القوة وقدرتها التكيفية مع الأوضاع والمواقف.
لذا لابد من استحضار حيثية جوهرية وهي أن عملية صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية تنبني على استراتيجية محملة بالقابلية للتكيف مع البيئة والسياق، كما تخضع لمجموعة من المحددات والمتغيرات، ناهيك عن الطابع المؤسساتي والتنافس البيروقراطي، كما يسميه المتخصصون في هذا الشأن. فالمسألة في مجملها تقع ضمن نطاق نظام سياسي قوي ومعقد مؤسساتيا، حيث يفقد فيه شخص الرئيس خاصية الإنفراد بالرأي أو حسم مخرجاته (فيما عدا ما يخوله له الدستور الأمريكي طبعا)، لكنه لا ينفي معه أثر القيمة الرمزية التي تحظى بها مكانة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
صراعات مزمنة بالشرق الأوسط
– مرت عشر سنوات على أحداث «الربيع العربي»… حولت دولا عربية إلى رماد ولازالت رحى الحرب متواصلة… هل مجيء «بايدن» إلى الحكم من شأنه أن يغير من هذا الواقع المر وما تكبدته المنطقة من دما وعدم استقرار؟
إن ما حدث ويحدث في المنطقة العربية، بما وصف «ربيعا عربيا»، يجد أهم أسبابه الرئيسة في طبيعة نمط الحكم السائد في هذه الدول، أين تجتمع المحددات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتساهم كلها في إنتاج مخرجات ذلك المشهد والذي أبان ضمن صور عدة عن ثلاث نقاط أساسية وهي:
1. أزمة السلطة والحكم داخل هذه الدول والتي تعد متغيرا أصيلا لتهالك وفشل كل السياسات الأخرى.
2. أزمة العجز الديمقراطي، وهو المسلك الذي اتخذته بعض من هذه الأنظمة لمواجهة حالة السخط جراء تآكل شرعيتها بتكريس ممارسة ديمقراطية الواجهة دون التمكين الحقيقي لهذه الشعوب من الانخراط الحقيق في عملية صنع القرار.
3. وضعت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في حرج حيال الكثير من الأنظمة، التي ينظر لها أنها مستبدة، والضامنة لاستمرار مصالحها.
بناء على ما تقدم، وبصرف النظر عن فكرة المؤامرة، فإن الأرضية كانت جاهزة وغذت معها فكرة القابلية للتحول والخروج من حقبة الحكم الذي يتهم أنه استبدادي واستلهم أسباب بقائه، معتمدا على مصادر الشرعية التقليدية. وفي مقابل هذا المشهد، يقع المواطن في المنطقة العربية تحت إكراه جدلية الأمن والديمقراطية، في إما أن ينعم بالأمن والاستقرار تحت حكم أنظمة تتهم بالاستبدادية. أو أن يصر على تغيير الأوضاع وتحمل تبعات ذلك، من انفلات أمني أو انهيار كامل للدولة وهو ما لا تترك له الشواهد من مجال لأن يفند.
نأتي، وبعد هذا المشهد التقريري الذي فرضته مقتضيات التحليل وتوصيف للبيئة، للحديث عن موقف الولايات المتحدة حيال ما شهدته المنطقة. فبالرغم من كل المبررات التي تسوقها هذه الدولة للدفاع عن قيم الديمقراطية، بل والتدخل القسري باسمها، فإن معيار الانتقائية المدفوع بالبراغماتية وضع صانع القرار الأمريكي داخل دائرة «الإحراج القيمي»، ويمكن فهم ذلك من خلال مؤشرين أساسيين، وهما:
1. المواقف المترددة حيال ما حدث في المنطقة من تحول، خاصة مع شركائها التقليديين وتأتي في مقدمتهم الدول الضامنة والمنخرطة في عملية السلام مع الكيان الصهيوني.
2. التخوف من أن يصبح القرار بيد هذه الشعوب (التي لا تتطابق مواقفها مع مواقف سلطها التي تحكمها) المستهجنة للسياسات الإكراهية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالقضايا المشتركة والصراعات المزمنة في الشرق الأوسط كالقضية الفلسطينية مثلا.
وخلاصة القول، فإن أحداث ما سمي «الربيع العربي» أكدت بما لا يدع مجالا معه للشك، بأن التناقض صريح بين المنظومة القيمية الأخلاقية التي تروج لها الولايات المتحدة الأمريكية، والمنظومة الواقعية التي تتجلى في الانتقائية ووسائل التدخل في هذه الدول».
تغيير الأوضاع مرتبط بالمصالح الأمريكية
بالعودة إلى إمكانية تأثر هذا المشهد بمجيئ «بايدن»، فإنه وبناء على المعطيات الموضوعية والظرفية، فإن الأمر لن يتجاوز نوعا من إعادة ترتيب المشهد وإعادة طرح الخطاب التقليدي «الناعم» الذي غيّبه الرئيس «ترامب» لصورة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلينا إذا نظرنا بنوع من التفاؤل بقدرة الوافد الجديد على تدارك «لما نراه أخطاء» والتي ورثها عن سلفه، علينا قبلها أن نسأل من دفع ويدفع فاتورة الدمار الذي حل بالعراق وليبيا وسوريا…
وفي كل الأحوال، فإن تغيير الأوضاع مرتبط بالأساس بمصلحة أمريكية خالصة مرتبطة بمقتضيات صياغة استراتيجية للتحكم في الأوضاع ومعرفة المخارج العقلانية وترتيب الأولويات، خاصة وأن العالم يشهد تحولا لا يمكن إنكاره جراء الأزمة الصحية التي ألمت به والرهانات لما بعد هذه الأزمة ومدى تأثيرها في موازين القوة المحتملة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأمر الذي لا يجب إغفاله ورغم مضامين خطاب الحملة الانتخابية لـ»بايدن» وانتقاده الصريح لسياسة «ترامب» في الشرق الأوسط، لا يعني بالضرورة تجاوز الارتباطات التقليدية مع كثير من الأنظمة العربية التي تحظى برعاية أمريكية. أما بالنسبة لما يحدث في ليبيا وسوريا، فإن المفهوم التقليدي لإدارة الصراع مع من لهم صلة سيبقى ملقيا بظلاله.
– توجّه «ترامب» كان أحادي الجانب، لا يميل إلى اتخاذ القرارات المشتركة مع شركائه التقليديين في العالم… هل فعلا «بايدن» سيغير من السياسة الخارجية الأمريكية ويستدرك ما وصف بهفوات «ترامب»؟
المسألة في عمومها، وكما سبق وأن فصلت آنفا، أن عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية مبنية على ثوابت يصعب معها في لغة التحليل السياسي المغامرة بتوقع تغيرها، ولعل ما يأتي على رأسها:
1. المحافظة على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية تجمع ما تفرق في غيرها من عوامل القوة.
2. التقليل من احتمالات أي تنافس قد ينشأ عن قوة مزاحمة أو صاعدة.
بالمجمل فالتعويل ليس على الثوابت بقدر ما هو تعويل على ترميم الصورة التي روج لها في عهدة الرئيس السابق «ترامب»، وإعادة إنعاش شبكات الاتصال مع العالم على المستوى الثنائي وحتى في إطار التجمعات الإقليمية والدولية.
التخفيف من حجم التوتر
– تحديات كبيرة تنتظر الرئيس المنتخب من بينها قضايا الشرق الأوسط وفي صدارتها القضية الفلسطينية التي تراجعت أولويتها لدى بعض البلدان العربية، بحسب تقديرك كيف سيتعاطى مع الصراع الفلسطيني الملغم بموجة التطبيع؟
إذا كان المقصود هنا بالتحدي هو جر وإقناع المعادين للكيان الصهيوني للالتحاق بركب المطبعين فهو تحدٍّ. في تقديري وبناء على المعطيات، فإن المشكلة الأساسية تنحصر في ثلاثة أمور أساسية، وعلى إثرها يمكن فهم السياق العام:
1- علاقة الدول العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وطبيعتها الوظيفية «علاقة المركز بالمركز».
2- علاقة بعض الدول العربية بالكيان الصهيوني.
ومنه وبالعكس، فإن الأمور تميل إلى الوضوح في هذا الشأن. فقد كشفت موجة التطبيع التي نشهدها اليوم، عن المتخاذلين سرّا والمعادين جهرا لهذا الكيان لتسقط تباعا من حسابات الآخر، مع إدراك مسبق عند الإدارة الأمريكية أن المهمة توازي مفهوم المستحيل لإقناع الممانعين وعلى رأسهم دولتنا الجزائر للانخراط في مثل هذه الصفقة.
3- العملية في عمومها ستشهد استكمالا لصفقة القرن التي تم الإعلان عنها وباركتها الكثير من الأطراف.
وعليه، فإن الأمر مرتبط أكثر بأمن الكيان الصهيوني منه بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. أقول هذا، رغم كل التفاؤل الذي أبدته بعض الزطراف بتعويلها على مجيئ «بايدن».
^ بالنسبة للملف النووي الإيراني، ما هي القرارات التي يمكن أن يتخذها؟
^^ باختصار، فإن الهدف الشامل والمرصود بشكل عام هو استرجاع نوع من الهدوء في المنطقة ككل للتخفيف من حجم التوتر الذي يحمله هذا الملف لإعادة ترتيب الأوراق ويأتي على رأسها وهو ما رافق حملة «بايدن» الانتخابية ما أسماه «عزمه الاقتراح على طهران خوض مسار موثوق به للعودة إلى الدبلوماسية». وفي كل حال، يعد هذا الخيار عقلانيا في تقدير الإدارة الأمريكية «الجديدة»، خاصة وأن عدم الانخراط في عمل دبلوماسي جاد سيمكن إيران من تطوير برنامجها النووي، مما يؤثر لا محالة على موازين القوى. كما يرى الكثير من المتابعين لهذا الشأن، إمكانية عودة «بايدن» إلى تفعيل اتفاق 2015، وعليه تغيير أساليب التعاطي مع هذا الملف سيعود بالنفع بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة الأمريكية.
المقايضة بين محتلين
– هناك من يرى أن إعلان «ترامب» الذي قبل فيه المغرب التطبيع مع الصهاينة مقابل السطو على الصحراء الغربية يمكن أن يمحوه «بايدن» بجرة قلم، لأنه يخرق الشرعية الدولية… ما رأيك؟
أولا مسألة ارتباط التراجع عن هذا الإعلان لعدم توافقه مع الشرعية الدولية ليس بالسبب الكافي، لأننا نعرف رصيد الولايات المتحدة وسوابقها في التعامل مع الشرعية الدولية وقراراتها في مجلس الأمن الدولي… علما أن الكثير من الأصوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ناهضت هذا الإعلان واعتبرته غير ملزم للولايات المتحدة كدولة. وعلى قدر الجدل الذي رافق هذا الإعلان، فإنه لا يغير المركز القانوني والأخلاقي للقضية الصحراوية. والذي يتم حاليا هو المقايضة بين محتلين حول مصيرها وكذا مصير الشعب الفلسطيني وكأن الأمر يتعلق بمحاولة ممنهجة لإغلاق الملفات التي نراها مفصلية وذات حساسية في معادلة الاستقرار ومناصرة القضايا العادلة.
– هل تعد إفريقيا أولوية وهل ستكون القارة السمراء ذات اهتمام للرئيس «بايدن»؟
إفريقيا تحتاج لأن نفرد لها موضوعا بعينه. هذه القارة التي عانت وتعاني بعمق أزمات مركبة ولكن – للأسف – وفي العلاقات الدولية فإن منطق الأخذ بالمجان غير وارد. وعليه، فإن البعد الاقتصادي يلقي بظلاله على طبيعة العلاقة الإرتباطية بين الطرفين في ظل تنافس تقليدي، ويمكن تصنيف ذلك أيضا بأنه يندرج ضمن دائرة الصراع الاقتصادي الذي يعد واقعا، خاصة مع ظهور قوى صاعدة في آسيا والتي تبحث عن منافذ للدفع باقتصادها.