مدير مختبر اللسانيات العربية وتحليل النصوص، أ.د.حبيب بوزوادة بجامعة بسكرة
يعتقد الكثير من المهتمين باللغة العربية أنّ تحسين أداء المتعلمين يمرّ عبر درس قواعد اللغة، وحفظها، ومعرفة شذوذها واطّرادها، فيلزمونهم يوم الامتحان بتأكيد هذا الحفظ وذلك الإتقان.
وما تزال هذه الطريقة جارية منذ عقود في مدارسنا الجزائرية، ظنًّا منا أننا نقدّم خدمة جليلة للغة العربية، غير أنّ هذا الظن سرعان ما يخيب عندما نلتفت إلى الوضع المزري للواقع اللغوي عندنا، على ألسنة طلابنا ومتعلمينا، فضلاً عن الإعلاميين والسياسيين والمشاهير على وسائل الإعلام المختلفة.
فتدريس اللغة العربية في مدارسنا؛ وحتى في الكليات المتخصّصة لا ينتج طلاباً يتقنون لغتهم، ويحسنون أداءها، مثلما يشهد الواقع بذلك، لأنّنا ندرّس اللغة العربية كأنها لغة التخاطب اليومي، وهذا غير صحيح في ظل هيمنة اللهجة العامية على الألسنة، حتى أضحت عائقاً حقيقياً أمام تعلّم اللغة العربية بالشكل المطلوب، خصوصاً عندما تصبح هذه العامية المثقلة بالمفردات الأجنبية حاضرة في وسائل الإعلام، على ألسنة المحللين والمحاورين ومن يسمون اليوم المؤثرين.
بل إنّها لغة التواصل الأساسية في المؤسسات التعليمية؛ فيستخدمها المدير والإداريون والمستشارون، وحتى مدرّسو بعض المواد العلمية والفنية والرياضة البدنية. لذلك يجد مدرّس اللغة العربية نفسه في ورطة وهو يحاول -باستماتة- تقويم ألسنة طلابه، وتهذيب منطوقهم، وصيانته من اللحن، وتطهيره من الرطانة.
لقد أثبتت التجربة أنّ التركيز على دروس النحو والصوف والبلاغة والعروض ونحوها من علوم اللغة، والمراهنة عليها باعتبارها السبيل الأمثل لتحسين الأداء اللغوي، هو خيارٌ محدود الجدوى؛ لا ينتج متكلّماً فصيحاً، ولا متحدّثاً بليغاً، وذلك أنّ صناعة الكلام متعلّقة بالسماع، الذي اعتبره ابن خلدون (أبا الـمَلَكَاتِ اللّسانيّة)، فالذي يعيش في وسطٍ يسمع فيه العبارة الفصيحة، والأشعار المليحة، والخطب البليغة، والقصص ذات النسج العالي، لا شك في أنّه سيتشرّب تلك النصوص، وتتشكّل على منوالها قريحته، وتتهذّب على مثالها ذائقته.
فقديماً كان العرب يرسلون أبناءهم للبادية لكي يقيموا ألسنتهم، ويندمجوا في مجتمع يستعمل اللغة بشكلها الصحيح، وهو ما أطلق عليه المعاصرون اسم الانغماس اللغوي (Language Immersion) الذي يقوم على خلق البيئة اللغوية الملائمة التي توفّر التلقي الجيّد للغة العربية، مثلما أكّده عالم اللسانيات الجزائري عبد الرحمن حاج صالح بقوله: “فمن أراد أن يتعلّم لغة من اللغات فلا بد أن يعيشها، وأن يعيشها هي وحدها لمدّة معيّنة، فلا يسمع غيرها، ولا ينطق بغيرها، وأن ينغمس في بحر أصواتها لمدة كافية لتظهر هذه الملكة”، ودليل هذا الطرح ما نلمسه حالياً من شبابنا المهاجر إلى البلدان الأوربية حيث يتمكّن في بضع سنوات من إتقان لغة البلد الأوربي بدون أيّ معلّم سوى مخالطة أهله، والانغماس في بيئتهم اللغوية.
لذلك نحن مطالبون في مدارسنا بخلق بيئة لغوية فصيحة وسلمية وجميلة أيضاً، بتشجيع المطالعة، وتوجيه التلاميذ إلى النصوص التي تلائم ذوقهم، وتراعي سنّهم، وتتناسب مع تطلعاتهم وأحلامهم، ليقرؤوها بِنَهَمٍ، ويتفاعلوا معها بإيجابية، لأنّ سوء اختيار النصوص يؤدّي إلى نفور التلميذ منها، ومن اللغة العربية نفسها، فلا يكفي أن يكون النص لأحد فحول الشعر كي نلزم التلميذ بقراءته وحفظه، ولكن المطلوب هو النظر في النص ومدى تناسبه مع مدارك التلميذ، وما يمكن أن يضيفه إليه من البيان العالي.
وتوجيه الطلاب والمتعلمين نحو المطالعة يجب أن لا يكون بالإكراه والقهر، فذلك ما يؤدّي إلى نتائج عكسية، ولكن يكون بالتحبيب والتودّد، بل وبالجزاء والمكافأة أيضاً، كأن يعفى الطالب من الفروض والواجبات عندما يثبت أنّه قرأ كتاباً أو رواية، أو أن تُضاف إلى رصيده بعض النقاط، أو يحتفى به أمام أساتذته وزملائه في نهاية الفصل، مع إشراك جميعات أوليات التلاميذ، أو نوادي المطالعة وغيرها..
وليس من الضروري أن نوجّه التلميذ إلى كاتب معيّن، أو مجال محدّد، ولكن الضرورة كل الضرورة هي القراءة، فلا يهمنا إن قرأ للمتنبي أو أبي العلاء أو أبي نواس أو للجاحظ، ولا يعنينا إذا استهوته كتابات العقاد أو طه حسين أو الإبراهيمي أو المازني، ولا فرق لدينا إذا افتتن بروايات أحلام مستغانمي أو محمد شكري أو أشعار نزار قباني أو وطنيات تميم البرغوثي، إنّ ما يعنينا هو أن يعشق التلميذ القراءة، وأن يحيا بها، وأن يودّع بها كل ليلة أمسه، ويستقبل بها يومهاً جديداً.
أمّا إذا أضاف التلميذ إلى كل ما سبق حفظ بعض الروائع الشعرية أو المقطوعات النثرية، من منتخبات الأدب العربي وعيونه؛ فإنّه يكون قد شارف على استكمال الملكة اللغوية، وتمكّن من تحرير لسانه من أمراض الكلام، ليسهل عليه حينئذ استيعاب قواعد اللغة، وامتثال قوانينها، فيجمع بين الحسنيين، ويواصل بين الخيرين.