على طول أودية الجنوب الغربي ” الساورة ” ترتكز سلسلة من القصور المعمارية التي تمثل حقبة مهمة في تاريخ المنطقة، لما تحتويه من زخارف وتفاصيل معمارية أصيلة غاية في الروعة، ظلت صامدة وكأنها تريد أن تبعث برسالة مفاده أنها عالية الهامة والقامة، ومازالت تستقطب أعدادا من السياح من داخل وخارج الوطن .
ولمعرفة المزيد عن هذه القصور التقينا بالأستاذ الجامعي “محمد العيهار” وهو أحد أبناء ولاية بشار و المهتمين بتاريخها، الذي أعطى لنا نبذة عنها، حيث قال : إن معنى القصور ليس هو الصرح كما هو شائع لدى البعض، وإنما هو تجمع عمراني محاط بجدران سميكة ذات أبراج، وهي عبارة عن تجمعات سكنية “هدروليكية ” أو عمائر صحراوية كما وصفها “ابن خلدون” أو قرى كما ذكرها ” ليون” الافريقي في وصفه لافريقيا، بالمفهوم المحلي السائد هي قصور أو قصبات ذات أشكال معمارية متجانسة وفي الغالب بنيت بالطين والحجارة على امتداد مسار الأودية والعيون، وهنا يرى أن الباحثين القدماء مثل ” هيرودوت” اهتموا بذكرها، وكذلك الرحالة المسلمين، ناهيك عن الكتابات الغربية التي اهتمت هي الأخرى بها، نظرا لما تمثله من أهمية كونها عمارة لتجمعات بشرية صحراوية مستقرة تشتغل على نشاط فلاحي يومي لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
و يشير الأستاذ ” العيهار” أن تاريخ هذه القصور يعود إلى قبائل الزناتة البربرية الذين هم أول من أنشأها، وهي ما تزال تحمل أسماء بربرية مثل ” مازر” و ” ألواتة” و ” أنفيد” و ” أكدال” و ” أماس” ..الخ، ومع الهجرات العربية والمصاهرة بين العرب والبربر حدث تمازج بشري ضمن القصر نفسه، أما تسمية القصور فقد تبلورت في العصر الإسلامي.
التصوف نشر تعاليم الإسلام
يرى الأستاذ ” العيهار” أن التصوف الإسلامي كان له دور كبير في نشر التعاليم الإسلامية وتهذيب النفوس بين ساكنة القصور، إضافة إلى خلق إطار تنظيمي إداري واجتماعي يحقق السلم والتضامن بين الجماعات، إذ ساهمت الزوايا الدينية في صمود الثقافة الإسلامية وتثبيتها في المجال الصحراوي عن طريق شيوخها، كما كانت تستقطب العلماء والفقهاء، و ملجئا للسائحين من الأولياء، ففي الجنوب الغربي “بوادي الساورة” وجدت عدة زوايا لعبت هذه الأدوار الحيوية ونذكر منها: زاوية سيدي سليمان بن أبي سماحة البكري ببني ونيف، وزاوية سيدي امحمد بن أبي زيان القندوسي بالقنادسة، وزاوية سيدي احمد بن موسى الكرزازي بكرزاز، و زوايا أخرى مثل زاوية سيدي عبد المالك بن بونقاب بتاغيت، وزاوية سيدي عبد الله بن الشيخ بقرزيم، كما أن كتبات الرحالة تروي جانبا من الحياة اليويمة لأهل القصور، فمثلا نجد الرحالة “العياشي” ذكر طريقة استقبال شيوخ القصور لركب الحجيج والكرم الذي نالوه منهم.
أناقة في العمران
يلفت الأستاذ العيهار إلى أن المخطط العمراني للقصور الصحراوية، تم وضعه حسبما تقتضيه الحاجة، فهو يكاد يكون متشابها في حدود بعض الاستثناءات، اذ يراعي الجانب الأمني للساكنة، فهي محصنة بجدران سميكة وأبراج مراقبة لصد غارات العدو، وفي الغالب نجد أن هذه القصور إما أنها وجدت على مرتفعات صخرية أو محاطة بكثبان رملية لتحقيق الجانب الأمني، وتتشكل القصور من بيوتات متراصة وأزقة ضيقة، صممت من أجل التأقلم مع الجو صيفا وشتاءا، فهو يبدأ بالمدخل الرئيسي، وأحيانا يحتوي على مجموعة من المداخل الغربية والشرقية أو شمالية و جنوبية، إذ يلاحظ وجود ساحة داخل القصر يجتمع فيها كبار القوم، أما المسجد فغالبا ما يتوسط البنايات، في حين عدد الأزقة و الممرات مرتبط بعدد العشائر القاطنة حيث لكل عشيرة لها جناحها الخاص.
ومن هذا المنطلق ـ يواصل حديثه ـ فان الحياة الاجتماعية داخل هذا الفضاء الجغرافي ارتبطت بالبيئة الصحراوية حتى أن المواد التي أنشأت بها القصور هي مواد محلية، وما يقف عليه الباحث هو أنه حتى التصاميم المعمارية كانت تتماشى مع الطبيعة المناخية للمكان، وعلى هذا النحو نجد أن عبارة القصر ارتبطت بالحياة الاجتماعية والثقافية لهذه الجماعات، حيث شدت اهتمام الباحثين في الدراسات الصحراوية، سواء التاريخية والجغرافية أو الأنثروبولوجية المرتبطة بالمكان، كما شكلت هذه الجماعة وحدة بشرية متجانسة من حيث العادات والتقاليد والفنون و الصناعات التي تدخل ضمن الحياة الاجتماعية لسكان الواحات.
كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية
يقول الأستاذ ” العيهار” أن أهل القصور في عهود سابقة لم يكونوا معزولين في الصحراء عن العالم الخارجي، بل يعيشوم حياتهم الطبيعية، يبيعون ويشترون، فعلى سبيل المثال كانوا يجلبون الصوف والسمن والأقمشة والصابون مما يصلهم عبر القوافل القادمة من الشمال و يقاضون تلك السلع بالتمور والحناء و مصنوعات تقليدية منزلية مثل سعف النخل، وكان أهل قصر واكدة ينقلون القمح والشعير إلى أطراف بلاد السودان عن طريق المقايضة، و لقد لعبت القوافل التجارية دورها في ربط الصلة بينهم وبين أهل الأمصار أو المدن البعيدة، إذ شهدت قصور الجنوب الغربي الجزائري نشاطا اجتماعيا وبشريا ملحوظا ابتداء من القرن السادس عشر ميلادي نتيجة للتحولات الفكرية و السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها العالم الاسلامي، ومن بين هذه القصور نذكر قصر “بوكايس” و قصر “موغل” وقصر “لحمر” وقصر “القنادسة” وقصر “العتيق” بمدينة بشار وقصر “واكدة” وقصور تاغيت” وقصور “ابن عباس” و” كرزاز” وغيرها.
وفي الأخير يؤكد الأستاذ ” العيهار” أن القصور الصحراوية في حاجة إلى الاهتمام من حيث صيانتها واعادة ترميمها، باعتبارها تراثا ماديا صحراويا شاهدا على حقب تاريخية يمكنها أن تكون موردا سياحيا كبيرا.
موسى دباب