في ذكرى المبايعة الثانية العامة للأمير عبد القادر، اختارت «الشعب أونلاين» سردا تاريخيا بعنوان تصنعه هذه المرة أنامل فنان ألهمته تحفه الفنية لاستكشاف تاريخ بلده بطريقة مميزّة، جعلته يبحث فيصنع فيبدع مجسّمات تُحيي تاريخ وطننا في صورة مخالفة، لم نعتد رؤيتها في مثل هذه المناسبات.
في اتّصال جريدة «الشعب» مع الحرفي تونسي نور الدين، اكتشفت رغبته القوّية في الحفاظ على موروث الأجداد، وبالخصوص تلك المتعلّقة بحياة الأمير عبد القادر السياسية والحربية، ليبرز فيها أهمية توعية وتثقيف أطفالنا في الحاضر والمستقبل، بما تكتنزه بلادنا من تراث أصيل يدعو للعزّة والافتخار.
يمزج الفنان نور الدين تونسي، ابن سيدي بلعباس، وهو من مواليد السبعينيات، بين هوايته لصناعة التحف الفنية وشغفه في الإطلاع على تاريخ الجزائر، عبر جذوره المغروسة في الزمن البعيد، ليصبّ جلّ اهتمامه في تاريخ الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري.
عصامي ينقّب في مراجع أصلية
يبحث الحرفي تونسي وينقّب عن المصادر الأصلية التي تُحدّثنا عن تاريخ مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة، وهو بذلك يفضّل الكتب التي لها صلة مباشرة مع الأمير عبد القادر، واعتمد في بحثه على كتابين مهمّين، بحسبه، الأول بعنوان: «وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي»، وهو عبارة عن أربعة وعشرين قانونا وضعها الأمير عبد القادر، كما اعتمد الفنان على كتاب آخر تحت مسمى «تحفة الزّائر في مآثر الأمير عبد القادر»، الذي رواه على ابنه محمد عبد القادر الذي قام بكتابته بخط يده، بدلا عنه وتمّ طبعه سنة 1903. يقول الباحث العصامي إنّه أوّل شخص جسّد الرتب العسكرية للجيش النظامي للأمير عبد القادر، وهذه الرّتب غير موجودة لا في متاحفنا ولا متاحف فرنسا. وأنّ المراجع التي اعتمد عليها أصلية بالنسبة له، حيث تخلو من معلومات مغالطة كالتي وجدها في مراجع لمؤرّخين أجانب معروفين مثل تشرشل وغيره، بالرّغم من أنّ هذا المؤرخ السالف الذكر كان شاهدا على أحداث تاريخية عديدة، وهذا لا ينفي احتمال وجود بعض المغالطات في كتبه، وهو بحث مطوّل وعميق، أصبح بإمكانه مقارنة تلك المعلومات في عدّة مصادر للتأكد منها، بهدف الاعتماد على كيفية صناعة أدوات وأسلحة تقليدية في شكل نماذج مصغّرة مطابقة للنسخ الأصلية التي صنعت في عهد الأمير عبد القادر، باستعمال مواد مختلفة كالحديد والنحاس والخشب، بالإضافة لقطع من القماش التي صنع منها غطاء الحنبل في تجسيد خيمة الأمير. وبفضل منهج المقارنة الذي استخدمه الحرفي الباحث، سمح له بجمع أكبر قدر من المعلومات، ليقوم بترجمتها في معظم الوسائل التي صنعها وتتواجد بمتحفه المتواضع والصغير، والذي خصّصه للأطفال، بحسب قوله، وهو يسهر على إخراج تصاميمها بتقنيات عبقرية ارتكزت عليها الصّناعة اليدوية والتقليدية لمختلف الأدوات المستعملة في الحقبة الزّمنية لدولة الأمير آنذاك.
آثار قليلة عندنا..أغلبها في متاحف فرنسية
يواصل المبدع تونسي حديثه شارحا فكرته، مبرزا الشيء الذي ساعده في تجسيد هذه الوسائل في نماذج، كونه حرفي عصامي، تعلّم الحدادة والنجارة والعديد من الحرف الأخرى لتمتزج لديه كل هذه الحرف في حرفة واحدة، وهي تمثل صناعة التحف الفنية، وساعده تحكّمه فيها في المُضي بعيدا في آفاق أخرى غير حرفته الأصلية هذه.
وخدمة لهدفه النّبيل المتمثّل في التعريف بآثار الأمير عبد القادر، يتنقّل الحرفي المبدع من متحف إلى آخر، آخرها كان بمعسكر في دار الثقافة بدعوة من مديرية الثقافة، احتفالا بذكرى مبايعة الأمير الثانية والعامة الموافقة لتاريخ الرابع فيفري، أين قام بعرض تحفه الفنية في شكل مجسّمات تمثل أسلحة وأدوات حربية استخدمها الأمير وجيشه في مقاومته ضد المستعمر الفرنسي.
في انتظار تحقيق أمله في إيجاد مكان يسع لمشروعه المتمثل في إنشاء متحف خاص يحتضن كل إبداعاته، أظهر كل استعداده لتأثيثه كلية لتحقيق فكرته المرتكزة أساسا على إحياء كل آثار الأمير عبد القادر التي لم يترك منها إلا القليل جدا، والتي تتواجد في متاحف عالمية، ولا يمكن للجزائري أن يمتّع ناظريه بها، والتعرف عليها واكتشاف أهميتها إلا إذا سافر إلى إحدى تلك البلدان، ويقول إنّ مجموعة كبيرة من القطع موجودة في متاحف فرنسا.
..التّعريف بشخصية الأمير للعامّة
بعد سنوات من المشاركة في معارض تُحيي ذكرى الأعياد الوطنية، يقول تونسي إنّه استلهم فكرة صناعة تحف فنية لها علاقة بتاريخنا وتراثنا، واهتم عندها بتلك المتعلّقة بتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة، ومن خلال البحث المتواصل في تاريخ الصناعة الجزائرية، يقول «وجدت أنّ الأمير عبد القادر شخصية فريدة، وأن ما كتب في تاريخه أصغر بكثير من حقيقته، فقرّرت إنشاء متحف الأمير عبد القادر والتعريف بتاريخه لفئة قلّما تجد المادة المتحفية في متناولها، ألا وهي فئة الأطفال». كما أخبرنا الحرفي بأنّ متحفه استفاد منه أيضا فاقدو البصر من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويقول «عند زيارتهم للمتحف كنت أضع القطع بين أيديهم وأشرح لهم، دائما كنت أبحث عن طريقة لترغيب كل الفئات في معرفة التاريخ والتراث الخاص بنا، لذا أركّز على الأطفال بابتداع طريقة ترغبه في المعرفة، هكذا قرّر الحرفي التعريف بشخصية الأمير للعامة».
وهو اليوم «يطمح أن يكون مشروعه المميّز محطة مهمة لإعادة إحياء أمجاد تاريخ الأمير عبد القادر اقتصاديا وعسكريا ودولة وصناعة».
لكن للأسف ما من مبدع لا تواجهه عراقيل لاسيما كانت مادية أو معنوية، وهنا أكّد الحرفي نور الدين أنّ أهم شيء يفتقده على المستوى المادي كفنّان يتمثّل في عدم توفر فضاء لتوسيع متحفه، بالرغم من ذلك، فهذا الأمر لم ينقص من عزيمته، ولكنه حريص على مواصلة طريقه، بما أنّه يعتبر هدفه أسمى، وهذا الحل المتنقّل، بالنسبة له مؤقّت، والمتمثل في صنع مجسّمات والمشاركة في متاحف، كلما قدّمت له دعوة فهو لا يرفضها، خدمة لما يطمح إليه من توعية للأجيال والتعريف بمكتنزات تاريخ أبطال الجزائر، وأشار إلى أنّه يبقى متعلّقا بالأمل، في انتظار استجابة المسؤولين على المرافق الثقافية، الذين سبق وأن طرح على بعض منهم مشكلته لتوفير مكان لمتحفه، وما يقدمه من إضافة في المجال الثقافي، ويؤكد أن «المتحف سيكون للعامة ولا يكلف الدولة شيئا «، وهكذا تكون الاستجابة بهدف إثراء تاريخي وتراثي لميدان المتاحف في بلادنا.
وبالعودة إلى أهمية التعريف بشخصية الأمير عبد القادر لدى أطفال الجزائر، قام الحرفي نور الدين تونسي بطبع كتاب حول آثار الأمير عبد القادر، يقدّمه كمكافأة للأطفال الذين يزورون المتحف، بعد إجراء مسابقة علمية تثقيفية، تتمحور حول ما يكتسبه هؤلاء البراعم من معلومات حول تاريخ الجزائر وشخصية الأمير.
يوضّح الحرفي تونسي أنّ النّماذج التي صنعها لها علاقة بعدة وقائع تاريخية، وتحمل معلومات عن أوصاف بعض القطع، لكن بحسب فكرته والملتزم بتحقيقها، فإن اكتمال إنشاء متحف تاريخي للدولة الجزائرية الحديثة في عهد مؤسّسها الأمير عبد القادر يتوجّب توسيع المتحف في الوقت الذي لا يجد فيه مكانا لذلك، بالرغم من توفّر أماكن غير مستغلة، وفي نفس الوقت تتوفّر ضمن القطاع، مثل مديرية الثقافة سابقا أو بعدة أماكن لا تستغل في شيء، وهي تبقى شاغرة لحد الساعة ويقترح أن توظّف لهذا الغرض، بل يمكنها أيضا أن تحوي ورشات تخصّص لتطوير مهارات الأطفال من أجل إشراكهم في العمل المتحفي للحفاظ على التراث وعلى التاريخ، ويضيف إنه يسعى لتحقيق هذا المشروع بكل طموح في إطار العمل التطوعي من خلال تكوينات وإرشادات يقدمها للتلاميذ، ولكل مهتم بتراثنا وتاريخنا من أجل الحفاظ على بعض الحرف التي تربطنا بماضينا وعراقة تاريخنا الأصيل.
«..أحد أحفاد الأمير عرض دعمه للمتحف»
في الأخير، يبقى هذا الفنان مواصلا طريقه لتحقيق فكرة مشروعه، حيث صمّم مجسّما وقدّمه إلى أحد المهندسين المعماريين ليرسم له مخطط للبناية التي تمثل المتحف الذي يطمح لإنشائه، إنّ كل ما في المتحف الحالي، يقول من أعماله، وهو موجود حاليا بمتحف المجاهدين، كما أضاف أنّه لازال يبحث عن مكان لتوسيعه رغم وجود مقرات فارغة منها تلك التابعة لوزارة الثقافة والفنون، ويضيف في هذا الصدد، أنّ أحد أحفاد الأمير اتّصل به وعرض عليه دعمه للمتحف بعد أن علم بوجود متحف للأمير عبد القادر عن طريق مبادرة شخصية.
ذكــــرى المبايعـــة الثّانية والعامّة في سطور..
بعد المبايعة الأولى التي أقيمت تحت شجرة الدردار، أين قام أهل معسكر ونواحيها بمبايعة الأمير عبد القادر بن محيي الدين، بتاريخ 27 نوفمبر 1832م، وبعد مرور ثلاثة أشهر أتت المبايعة الثانية بعد دعوة جميع القبائل للحضور، وأطلق عليها اسم المبايعة الثانية العامة.
لما ذاع خبر البيعة الأولى، بادر أعيان ووجهاء ورؤساء القبائل إلى معسكر بمسجد يسمى حاليا مسجد سيدي الحسان أي بعد حوالي ثلاثة شهور من البيعة الأولى، وقعت «المبايعة الثانية» أو «المبايعة العامة» بتاريخ 4 فيفري 1833م. وفي ذات اليوم، بحسب إحدى المراجع التاريخية دخل الأمير عبد القادر إلى مسجد معسكر الجامع، المسمى مسجد سيدي حسان حاليا، وألقى خطبة جماعية واسعة حاثّا أبناء قومه على الجهادضد الاحتلال الفرنسي، وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية.
وكان ممّن حضر هذه «المبايعة العامة» أهالي سهل غريس الهشم «الشراقة»، «الغرابة»، «خالدي»، «عباسي»، «براهيمي»، «حساني»، «العوفي»، «جعفري»، «برجي»، «شقراني»، «بنى السيد دحو»، «بني سيدي أحمد بن علي»، «الزلامطة»، «مغراوة»، «طلوية»، «عارف» وأهالي «واد الحمام»، حيث حرّرت وثيقة أخرى للمبايعة وقرئت على المواطنين، وتولّى كتابتها المجاهد محمود بن حوا، أحد علماء المنطقة.