الأستاذ أحمد جعفري يقف عند إرث العلاقات المشترك
تتطرق “الشعب أون لاين” من خلال هذا الحوار مع الدكتور أحمد جعفري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بجامعة غرداية، إلى عمق العلاقات الجزائرية الإفريقية في بعدها التاريخي من خلال الإرث المشترك والتحديات الراهنة على الصعيدين الديبلوماسي الاقتصادي، والفرص الواعدة لتعزيز أواصر التعاون في المستقبل استنادا على جسور العلاقات المشيدة منذ القدم.
الإرث المشترك منطلق لمجابهة التحديات الراهنة معا
الشعب: العلاقات الجزائرية الإفريقية، علاقات ضاربة في بعدها الجغرافي والاستراتيجي، إلام تعود جذورها التاريخية؟
الدكتور أحمد جعفري: تعد الجزائر أكبر دول القارة الإفريقية مساحة وهو ما سمح لها بالامتداد جنوباً واشتراكها في الحدود مع أكثر من دولة مغاربية وإفريقية، فكان من الطبيعي أنْ تؤثر في محيطها الجهوي والإقليمي وأنْ تتأثر به، تبعاً للظروف والأحداث التي تطبع كل مرحلة، تلك الروابط لم تكن وليدة اليوم أو اللحظة وإنما هي نتيجة تراكمات من العلاقات العديدة والمتشعبة تعود أصولها ومصادرها إلى فترات عتيقة قد تسبق انتشار الإسلام والعربية في تلك البلاد، حسبما تم الوقوف عليه من آثار وما دوّنه المتقدِّمون.
ومع انتشار الإسلام وصوّر الثقافة العربية والمغاربية في الضفة الجنوبية للصحراء وقيام ممالك وإمبراطوريات بها منذ القرن الثالث عشر الميلادي- السابع الهجري-، كانت الصحراء الجزائرية بتُجارها ودعاتها، الرافد الأول لتلك المؤثرات ونخص بالذكر هنا حواضر توات وميزاب وتيهرت وورجلان وتندوف. وكان في مقدمة تلك المؤثرات الدينية واللغوية سيادة المذهب الفقهي المالكي، وقراءة القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، وامتداد الطرق الصوفية، خاصة التيجانية والقادرية وأصبح اللسان العربي في فترة وجيزة هو لغة التعليم والتجارة، وأضحى انتقال الدعاة والفقهاء والعلماء من بلاد المغرب الأوسط إلى بلاد السودان أمراً مألوفاً.
وكان في طليعة هؤلاء ومن أكثرهم شهرة وتأثيراً الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني مسقطاً التواتي داراً ومنزلاً، والذي لا يزال صيته ذائع إلى اليوم في شمال نيجيريا.
وقد نقلت إلينا مختلف المصادر العربية وكتب الرحلة مدى التأثير الذي أحدثه المغاربة عموماً والجزائريين على وجه الخصوص في بلدان جنوب الصحراء من ميادين التجارة إلى الثقافة والعمران وغيرها.
فهذا “حسن الوزان” في كتابه وصف إفريقيا يتحدث عن “حي” كامل للتواتيين في تمبكتو والذي زارها في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وقبله بن بطوطة يذكر عن وجود تجار من توات وبلاد المغرب في تمبكتو أيضاً، وإلى جانبهم نقل إلينا الرحالة الأوربيون جانبا من ذلك التأثير، خاصة منهم الإنجليز والألمان والفرنسيين، من أمثال هنري بارث وروني كاييه بحديثهم عن المباني الطوبية والأزقة الضيقة والنسيج العمراني، الذي يشبه النمط الصحراوي المغاربي إلى حد كبير والنصوص عن مظاهر التأثير عديدة وفي مختلف المجالات لا يسعنا المجال لذكرها.
مكاسب الديبلوماسية الجزائرية قاطرة لتعزيز العلاقات
أبعاد هذه العلاقات كثيرة وتأثيراتها متعددة، في ما نلمس التأثير الاقتصادي والدبلوماسي للجزائر في بلدان جنوب الصحراء قديماً وحديثاً؟
استمر ذلك التواصل بين الضفتين طوال الفترة الحديثة والمعاصرة بطرق شتّى ومظاهر متعددة برغم الموانع الكثيرة التي قلّصت عبور تلك المؤثرات بين المجالين وفي مقدمتها الاستعمار، فكانت مراكز توات، ورجلان وميزاب محطات تجارية بالغة الأهمية في تجارة الذهب والعبيد وريش النعام القادمة من جنوب الصحراء وبلاد السودان، والتي استعيضت بعد تراجع التبر وتحريم تجارة الرقيق بالأغنام وبعض المنتجات الزراعية الحديثة، وبالمقابل كانت الحواضر السالفة الذكر تموِّن أسواق الضفة المقابلة، مثل تمبكتو وغاو وجني بما تحتاج اليه من تمر ونسيج وبعض السلع القادمة من أوروبا وغيرها.
وفي الجانب السياسي والدبلوماسي أقامت الجزائر علاقات متميزة مع بلدان جنوب الساحل والصحراء، فبالإضافة إلى دعم البعض منها في قضايا الاستعمار وتصفيته كانت الجزائر قبلة الثوار الأولى في القارة واحتضنت الكثير من القادة والزعماء المناهضين للاستعمار، وتمكنت الجزائر بفضل دبلوماسيتها المرنة من حلحلة الكثير من الحروب الأهلية وقضايا الحدود المستعصية مثل الصراع الإثيوبي الأريتيري وغيره الكثير.
السوق الإفريقية فرصة واعدة للاقتصاد الجزائري،
ماذا عن علاقات الجزائر مع بلدان الساحل في الوقت الراهن وما التحديات التي تواجهها؟
هذا عن الأمس القريب، أمّا اليوم فصورة الجزائر ومكانتها في المنطقة يشوبها الكثير من الضبابية والتلكؤ وعدم الوضوح والتردد وغياب القرار، ومؤخراً فقدت الجزائر الكثير لصالح قوى اقتصادية عالمية مثل الصين وفرنسا وحتى إسرائيل، ولصالح قوى تنافسية تقليدية، توسعت في فضاءات كانت تعد امتداداً طبيعيا وتقليدياً للجزائر مثل مالي والنيجر وموريتانيا وحتى نيجيريا وبعيداً عن هذه المقارنات فإنّ إمكانات الجزائر وموقعها في القارة يخولانها أن تكون في موقع أفضل مما هي عليه الآن.
يضاف إلى ما ذكرنا من التحديات، تواجه الجزائر اليوم موجات بشرية يومية من بلدان جنوب الصحراء خاصة النيجر ومالي تلك الهجرات سواء كانت لدوافع سياسية أو بحثا عن القوت والعمل فإنها تشكل تحديا إضافيا، وجب على الجزائر أن تجد له حلولاً دائمة خاصة وأن الجزائر تحولت إلى وجهة مفضلة لأولئك المهاجرين غير الشرعيين. وأضحت منطقة إقامة بعد أن كانت مركز عبور في ظل السياسات الوقائية التي اتخذتها الدول الأوربية للحد من تلك الهجرات والتي يقع العاتق الأكبر منها على دول جنوب المتوسط.
وإلى جانب التحديات الاجتماعية والاقتصادية نجد أن الوضع الأمني لا يزال يفرض نفسه وبحدة في ظل استمرار نشاط بعض الجماعات المسلحة، وانتشارها في شمال مالي وغرب النيجر وتشاد وهو ما يشكل تحدياً مشتركاً لدول ضفتي الصحراء ويحول دون تحقيق الرؤية الاستراتيجية والاقتصادية المشتركة لدول الساحل.
هذا ما يفرضع لى الجزائر جهودا عسكرية مضاعفة في سبيل محاربة الجريمة المنظمة والإرهاب والتهريب وتجارة المخدرات في العمق، والبحث عن سبل ووسائل مشتركة أمنية واقتصادية بين الدول المعنية بعيداً عن التدخلات والإملاءات الغربية ولا سيما الفرنسية والأمريكية.
إذن، كيف يمكن للجزائر تعزيز تلك العلاقات، لاسترجاع مكانتها التاريخية في إفريقيا؟
الإجابة عن ذلك لا تتأتى عن طريق معالجة وقتية وظرفية أحادية الجانب أو حتى ثنائية، وإنما هي في حاجة إلى توصيف فعلي لتلك الروابط والكشف عن مواطن الضعف فيها مع اقتراح حلول واقعية بما يفيد جميع الأطراف، ولئن كانت تلك العلاقات خيارا ثانويا في السابق فقد أضحت اليوم حتمية لا مناص منها.
فإذا كانت الجزائر تبحث عن ملاذ لاقتصادها المرهون لسعر برميل النفط وتقلباته وفي ظل عجزها عن كسب رهان المنافسة أو الشراكة مع الضفة الشمالية للمتوسط، فجميع السياسات الاقتصادية السابقة، كانت تضع في الحسبان انفتاح الجزائر على الأسواق الإفريقية لضمان التنافسية وتحقيق الأرباح إلاّ أنّ الواقع لم يشهد بعد تجسيد هذا الطموح فعليا.
والأمر نفسه ينسحب على الملفين الديبلوماسي والأمني فمكانة الجزائر في الاتحاد الإفريقي، أضحت في حاجة إلى تعزيز أكبر من ذي قبل، خاصة في ظل التحديات الأمنية وانتشار المنظمات الإرهابية في بلاد الساحل التي تؤرق الحدود وتنهكها مادياً وهو ما يفرض إيجاد حلول جذرية وواقعية تأخذ في الحسبان وضع مقاربة أمنية اقتصادية تعمل من خلالها بلادنا على استثمار وتنمية مقدراتها الفلاحية والطاقوية والمعدنية في الجنوب والعمل على تصديرها نحو تلك البلدان، بما يحقق أمناً اقتصاديا وعسكرياً مزدوجاً، ينجر عنه محاربة جميع مظاهر الهجرة غير الشرعية والجماعات المسلحة التي تتغذى على يد الأطراف الخارجية المعادية مستغلة عوزها الاجتماعي وفقرها الاقتصادي.
وفي الأخير، قديماً قالوا إن يجرب جملك فعليك بالقطران… وإنْ تفتقر فسافر إلى السودان، ولئن كانت الظروف مختلفة والواقع متغير، فإن تبر السودان (إفريقيا جنوب الصحراء) لم ينضب وكنوزه كثيرة وأسواقه واسعة والمنافسة فيه أيضاً شديدة، وعلى الجزائر أنْ تستفيد من رصيدها التاريخي والدبلوماسي لإعادة إحياء بعضٍ مما فقدت وبعث شيءٍ مما أهملت.