من قراءة التاريخ، سواء عند ابن خلدون أو عند بول كينيدي، يمكن أن نستنتج أنه لم يَبنِ أي شعب مؤسساته في الشوارع. ونستنتج أيضا، أن حركة الشعوب ترشدها النخب. عشنا ذلك أيام الثورات السياسية الاجتماعية في بلدان شرق أوروبا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ورأينا كيف أن المعارك السياسية الدستورية والانتخابية كانت معارك نخب.
كل حركة للشعوب هي في أصلها فعل إيجابي وفعل بناء، وعادة هي بداية مسارات سياسية مؤسساتية جديدة. لهذا فالحراك الجزائري كان فعلا منقذا للدولة ومحرّرا للنخب، في السلطة وخارجها، وبداية جديدة في طريق استكمال تجسيد المشروع الوطني الذي تعثّر بسبب أنماط سلوك وإدارة انتهت فترة صلاحيتها منذ زمن بعيد وكان لا بد من الانتقال الواعي والمنظّم لأنماط إدارة سياسية مختلفة تماما.
نعم، الحراك فعل إيجابي من حيث أنه حتم على النخب التفكير في بدائل حلول جديدة ومغايرة تستجيب لمطالب الجزائريين ومستلزمات التغيير السياسي الشامل. لكن وقائع كثيرة تقول، إن النخب ما زالت لم تتمكن من استعادة المبادرة من الشارع، وما زالت الإرادة السياسية فعلاً مؤسساتياً في الجانب الأكثر أهمية منه. فالقوى السياسية، على اختلاف توجهاتها، ما زالت متخلفة عن صياغة بدائل أخرى وما زالت لم تبدع مناهج عمل أخرى وآليات بناء علاقة أخرى مع الناس.
طبعا التغيير في حاجة لتوافق واسع، وهو ما يسعى إليه الرئيس تبون عبر لقاءاته المتكررة مع جل مكونات الساحة السياسية. ولكن، وكما سبق للرئيس أن قال: «العصابة ما زالت تحاول العودة»، وهو ما يعني أن في طريق التغيير أشواك ينبغي إزالتها.
معروف أن البيروقراطيات، السياسية والإدارية، تحمل في منطقها العام عوامل تفضل الركود والتحول البطيئ، ولهذا تكون في تعارض مع الإرادة السياسية الراغبة في التغيير والعاملة من أجله، رأينا ذلك في تسعينيات القرن الماضي ونلمس أوجها منه اليوم.
غني عن القول أنه ينبغي قول الحقائق وشرح الوقائع للجزائريين. فالقوى الرافضة للتغيير قد تستخدم حتى منطق الحراك، فالمهم بالنسبة لها هو بقاء الوضع القائم ونشر صورة قاتمة عن قدرة النخبة على الوصول بإرادة التغيير إلى غاياتها.
معلوم جدا أن النخب السياسية تعيش مرحلة تقييم عويصة وعلاقتها بالناس مضطربة حينا ومنقطعة حينا آخر، وبعضها عوض أن يقوم بـ «مراجعات كبرى» ضرورية للتخلص من أدران الممارسة السياسية التي أوصلت البلاد لحال التأزم والقطيعة بين الناس والسياسة وبين الناس والكثير من النخب، تراه يمارس الهروب إلى الأمام وحتى التضليل أحيانا بثقافة تبرير غير نافعة.
ظاهر الأشياء أحيانا غير باطنها والطريق للجحيم معبّد، كما تقول الحكمة، بالنوايا الحسنة، وتلك نوايا الكثير من الجزائريين في التعبير عن رغبة جامحة في تسريع التغيير وفي حدوث قطيعة مع ما يمكن وصفه أنه جزائر فسدت وفشلت. ولكن مقابل هذا، ينبغي أن لا ننسى أن هناك جزائر ناجحة يستوجب دعمها وتقويتها وتمكينها من الانتصار على الفساد وعلى الفشل.
العقل والمنطق يقولان: إن الحل ليس في المواجهة، لا بين الناس والنخب، كل النخب، ولا بين النخب، إنه في التوافق السياسي وفي تحسين القدرة عند كل النخب، السياسية والاجتماعية، الفكرية والأكاديمية والإعلامية، على إقناع الناس أن طريق التغيير مليئ بالأشواك، وأن منها ما هو منظور ومنها ما هو خفي، ومنها ما هو مفهوم وما هو غير مفهوم ومدرك، ومنها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، منها ما هو موضوعي ومنها ما هو غير موضوعي.
إن الأزمات التي نتجت عن الأزمة الصحية العالمية كثيرة، وهذه تتطلب دعم المؤسسات لا إضعافها وترقية الخدمات لا تعطيلها وتتطلب توفير شروط بناء منظومة سياسية جديدة لا تأخيرها.
«الشعب»
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.