استعادة قيمة الدّينار مرهونة بالتّنويع خارج المحروقات
— السّوق الموازي للعملة الصّعبة سرطان ينخر الاقتصاد
ما يزال تدنّي قيمة الدينار الجزائري يصنع الحدث بسبب الانعكاسات الاقتصادية، سيما ارتفاع الأسعار وتضرّر القدرة الشرائية للمواطن بشكل مباشر.
بالرغم من تطمينات وزير المالية باستعادة العملة الوطنية عافيتها وقدرتها الإبرائية مع نهاية 2021، لكن يبدو أن التخفيضات المتكررة للدينار تؤكد عكس ذلك حسب الخبراء الاقتصاديين، إلى جانب الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك خاصة بالسوق الموازية التي أصبحت مشكلا حقيقيا يؤرق الحكومة وزاد من حدتها ندرة السيولة، وهو ما تطرّقت إليه «الشعب» في هذا الحوار مع الخبير الاقتصادي والمالي سليمان ناصر.
الشعب: ما يزال احتواء الكتلة النقدية خارج البنوك معضلة، ما قراءتكم بهذا الخصوص؟
الخبير الاقتصادي والمالي سليمان ناصر: يجب أن نذكر أنّ الحكومة اتّخذت العديد من التدابير في السنوات الماضية من أجل احتواء الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك، خاصة في السوق الموازية بعد أن تحوّل إلى مشكلة حقيقة نذكر منها:
– التّصريح الضريبي الطوعي مقابل دفع ضريبة مخفضة تقدّر بـ 7 بالمائة، وكانت الحصيلة ضعيفة جدا، الذهاب إلى القرض السندي من خلال سندات لمدة ثلاث سنوات بنسبة فائدة 5 بالمائة، وسندات لمدة خمس سنوات بمعدل فائدة 5.75 بالمائة، إلا أن الحصيلة كانت أيضا هزيلة، حيث تمّ تحصيل ما قيمته 563 مليار دينار فقط، أي حوالي 5 مليار دولار في ذلك الوقت، ولم تكف حتى لسداد العجز في الموازنة.
– الصيرفة الإسلامية كانت أيضا أحد الحلول التي تم اللجوء إليها باعتبار أن الكثير من الجزائريين لا يفضّلون التعامل بالفائدة، وهي الأخرى عرف تطبيقها ارتكاب العديد من الأخطاء، لكن في حال الاستفادة من هذه الأخطاء السابقة يمكن أن تكون حصيلتها أحسن.
ثلث الكتلة النّقدية المتداولة نقود ورقية
في المقابل يجب أن نعرف بأنّ نسبة الادّخار الوطني في شكل نقود ورقية والمتداولة خارج القنوات البنكية تمثل ما نسبته 34.73 بالمائة، فبعد أن كانت 5337 مليار دينار في 2019، وصلت في 2020 إلى 6140.7 مليار دينار، حسب آخر تقرير للبنك المركزي الصادر في 28 فيفري 2021، وهو رقم كبير لأنه يمثل الثلث من إجمالي الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك.
ما هي الحلول المقترحة من أجل استقطاب الكتلة النّقدية المتداولة خارج البنوك وامتصاصها؟
أعتقد أن الحل العملي والوحيد لاستقطاب الكتلة النقدية خارج البنوك هو الإسراع في تعميم وسائل الدفع الالكتروني التي عرفت فيها الكثير من الدول خطوات عملاقة، في حين أن الجزائر ما تزال متخلفة وللأسف تم تأجيله عدة مرات آخرها نهاية 2020 ليتم مؤخرا تأجيله إلى غاية نهاية 2021.
تسديد فواتير الكهرباء، الماء والأنترنت إلكترونيا
ونحن كاقتصاديّين نبّهنا إلى أنّ هذا القرار خطأ فادح، فعلى الأقل كان يجب الاحتفاظ بإجباريته في بعض القطاعات كتسديد الفواتير المتعلقة بالماء، الكهرباء، الانترنت، محطات البنزين حتى يتم تهيئة المواطن للتعامل بهذه الوسيلة طوال السنة الحالية إلى غاية وصول الموعد المحدد لذلك، وتجنب عدم استعدادهم والأكثر من ذلك إمكانية تحجج التجار بعدم اقتناء الأجهزة القارئة.
فلا يجب ربط تأخير العمل بالدفع الالكتروني بالمواطن لأنه قادر على التكيف، خاصة وأن 70 بالمائة من مكونات المجتمع الجزائري شباب، والذي له قابلية لاستيعاب مختلف الحلول التكنولوجية الحديثة والتطبيقات، فيجب المضي في هذا الأمر دون تأخير والحكومة مطالبة بذلك لما له من فوائد كثيرة على الاقتصاد.
وفي الجزائر لدينا بطاقتين إلكترونيتين الذهبية للبريد الجزائري، والبطاقة الإلكترونية المشتركة بين البنوك «cib»، وهما بطاقتان مسبقتا الدفع ولا تمنح القرض بمعنى أنه يجب أن يكون رصيد يتطلب تمويله بصفة دورية، وبالتالي ستتحوّل العملية إلى العكس فبدلا من الطوابير على عمليات السحب ومشاكل نفاذ السيولة، يكون هناك طوابير من أجل الدفع.
أمام كل هذا التّدهور، كيف يمكن للدينار الجزائري استعادة قيمته في السّوق؟
كيفية إعادة القيمة الدينار أمر معقّد لارتباطه الوثيق بتنويع الاقتصاد، حيث فشلت كل الخطط الاقتصادية خلال العقود الماضية في تحقيق هذه الغاية، بالرغم من الاعتمادات المالية الضخمة التي سخرت لإنعاش بعض القطاعات، وانعكاس ذلك على القدرة الشرائية.
فمن بين الحلول التي يتعيّن على الحكومة المبادرة فيها والتخطيط لها بصفة جادّة الإسراع في تطوير الاقتصاد الوطني بالتنويع في الإنتاج خارج الريع البترولي في قطاعات منتجة مختلفة كالصناعة الفلاحة، السياحة، الخدمات، كلّها أمور يمكن أن تنتج ثروة، مناصب عمل وتحرّك العجلة الاقتصادية بعيدا عن منتجات البترول ومشتقاته.
وأهم شيء في المعادلة رفع حجم الصادرات خارج المحروقات، هذه الأخيرة التي تمثل نسبة 93 بالمائة، في حين أن باقي النسبة لا تحقق سوى مليارين دينار علما أنّ 75 بالمائة من تركيبة هذه القيمة المالية هي عبارة عن مشتقات البترول، في حين لا تمثّل صادراتنا من المواد والصناعات الغذائية سوى نسبة قليلة.
وبالتالي فالإسراع في رفع إنتاجية الاقتصاد الوطني من خلال تطوير مثل القطاعات المنتجة يدفع إلى طلب العملة الوطنية، ورفع قيمتها في السوق وجعلها تخضع لقانون العرض والطلب، وهي جملة من الحلول التي يمكن للعملة الوطنية استرجاع قيمتها من خلالها على الأمدين المتوسط والطويل.
تعويم الدينار لتحريره مؤقّتا حلّ قصير الأمد
أما على الأمد القصير، فيجب الذهاب نحو التعويم النهائي للعملة الوطنية لمدة محددة التاريخ من البداية إلى النهاية، ويخضع بموجب ذلك الدينار لقانون العرض والطلب لتحديد سعر صرفه مقابل العملة الصعبة فيصبح متحرّرا بشكل كامل دون تدخل الحكومة أو البنك المركزي أي بنك الجزائر في تحديد سعره مباشرة، وهذا لتجنب التخفيضات المتوالية للدينار، الذي يؤدي إلى مشاكل كثيرة منها تضرر القدرة الشرائية للمواطن البسيط.
علما أنّ قانون المالية لسنة 2021 تضمن تخفيضات في الدينار لمدة ثلاث سنوات متتالية إلى غاية سنة 2023، لكن السؤال الذي يجب أن يطرح ما هي الضمانات المقدمة التي تضمن أن هذه التخفيضات لن تستمر لعشر أو 15 سنة؟ إذا علمنا أنّ بنك الجزائر يتدخل في كل مرة من خلال ما يعرف بـ التعويم «المدار» لتحديد سعر صرف الدينار وفق متغيرات أساسية ينظر إليها كل عام كالميزان التجاري، ميزان المدفوعات، أسعار ومداخيل البترول، احتياطي الصرف، حجم النفقات العمومية، التنافسية والإنتاجية بين الداخل والخارج، والتغيرات التي تعرفها أسعار العملات سيما الدولار والأورو، وبالتالي فالتعويم المحدد التاريخ هو الحل في وضعنا هذا في ظل الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها.
وفيما يخص طبع الأوراق، فهو إجراء روتيني يتم فيها سحب كتلة نقدية بالية أو ممزقة وتعويضها بأشكال جديدة فقط بصفة تدريجية، وليس لها أي علاقة بالتمويل التقليدي لتمويل العجز في الموازنة أو في الخزينة.
خوصصة بنوك عمومية لتحقيق التّنافسية
الوضع الاقتصادي يفرض إعادة النظر في المنظومة المالية وعلى رأسها البنوك، ما رأيك؟ وما هي اقتراحاتك في هذا الخصوص؟
تطوير الجهاز البنكي يحتاج لوقت ويمس جوانب متعددة، بحيث يجب أن نعلم أن الجزائر تحصي 20 بنكا منها 6 بنوك عمومية والـ 14 الباقية بنوك مختلطة وأجنبية.
وتسيطر البنوك العمومية على السوق المصرفية بنسبة كبيرة تتراوح بين 85 و87 بالمائة من السوق المصرفية بحكم عوامل تاريخية تعود لأكثر من 50 سنة كونها تأسّست في الستينات، كان آخرها بنك التنمية المحلية الذي أنشئ في سنة 1985، وعايشت هذه البنوك العهد الاشتراكي وبقيت على نفس الممارسات في صب الرواتب والمعاشات وبعض المعاملات البسيطة، ولا ترقى للحركية التي تعرفها مختلف اقتصاديات العالم وكذا الاستثمارات الأجنبية.
ولهذا أرى أنه يتعين خوصصة جزء من البنوك العمومية لإنشاء نوع من التنافسية رغم أن هذا الأمر تم تقديمه والحديث عنه منذ سنة 2000، وقد تحدث وزير المالية مؤخرا على هذا الأمر من خلال البورصة، ولكن لحد الآن لم يتجسد ذلك.
وستسمح هذه الخوصصة بإقامة منافسة حقيقية في تحسين الخدمات، الأسعار، معدل الفائدة، العمولات ما يحفز البنوك العمومية على تطوير نشاطها في إطار هذا المسعى حفاظا على بقائها في إطار المنظومة المالية، وكذا على زبائنها.
في المقابل تبقى السوق الموازية لصرف العملة الصعبة سرطانا ينخر الاقتصاد الوطني تقف وراءها رؤوس كبيرة، رغم محاولة الكثير من الوزراء القضاء عليها ما يحول دون استفادة الجزائر من احتياطي الصرف الوطني من العملة الصعبة المتداولة، ويقف عائقا أمام الاستفادة من أي فرصة لإدخال العملات الأجنبية من طرف المستثمرين الوطنيين.
إنّ بلادنا لا تستفيد مثلا من تحويلات المهاجرين والتي تبقى في الجزائر عند عتبة الصفر مقارنة بدول أخرى، لأن السعر الذي تعرضه السوق الموازية أحسن من البنوك العمومية بفرق يصل أحيانا إلى 50 بالمائة، ولو كانت السوق موحّدة والسعر موحّد سيختلف الحديث ولن يبحث المهاجر عن السوق الموازية من أجل صرف عملته بل سيلجأ مباشرة إلى البنوك، وبالتالي العملة الصعبة تحول إلى احتياطي الصرف الذي ما يزال يعتمد في الأساس على عائدات البترول والغاز.
ولنا أمثلة من جيراننا نجحوا في ذلك من خلال تذليل كل الصعوبات البنكية التي تحول دون تحويل جاليتها للعملة الصعبة ببنوكها فمصر مثلا: تستفيد من 27 مليار سنويا من تحويلات المهاجرين، المغرب 7 مليار دينار، تونس 2 مليار دينار في حين الجزائر 0 بسبب السوق السوداء للعملة الصعبة التي تحتاج إلى إرادة سياسية جادة لإنهائها، واستبدالها ببنك خاص أو شباك مخصّص لصرفها.