ترفض الجزائر محاولات سحبها لمستنقع «الحرب على الإرهاب» في منطقة الساحل الإفريقي، الذي دخلته فرنسا بحسابات جد ضيقة، وتواصل التصدي لحملات المساومة والابتزاز الدبلوماسي الذي تمارسه لوبيات تستغل الترابط الشائك في الملفات الثنائية بينها وبين فرنسا.
في 30 مارس المنقضي، أعلنت الأمم المتحدة، أن الجيش الفرنسي قتل 19 مدنيا، بمدينة بونتي، وسط مالي تجمعوا في حفل زفاف، بضربة جوية، نفذت في 3 جانفي الماضي. وجاء التأكيد، كخلاصة لتحقيق أجرته شعبة حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، بالشراكة مع شرطة الطب الشرعي التابعة للأمم المتحدة.
ومنتصف شهر فيفري الماضي، أصدرت مجموعة الأزمات الدولية، تقريرا تؤكد فيه أن العملية العسكرية التي أطلقتها فرنسا سنة 2013، في الساحل الإفريقي، تحت مسمى «سيرفال» ثم «برخان»، باءت «بالفشل» بل و»أتت بنتائج عكسية وعمقت التطرف العنيف».
وقبل أسابيع، استعرض موقع «ميديا بارت»، سبب إطلاق تسمية «برخان» على العملية العسكرية سنة 2014، وبأنها تعني «كثيب رملي على شكل هلال يتحرك في مهب الريح» وبالتالي «فهي تتحرك وفقا للتهديد».
بعد 7 سنوات، لا يبدو أن القوات الفرنسية المنتشرة شمال مالي والنيجر، تعرف أين تتجه، فالعمليات الإرهابية تتضاعف، بل تحولت إلى مجازر جماعية واقتتال عرقي وفضائح تطاردها بقتل المدنيين الأبرياء.
وأمام هذا كله، لم تلمس شعوب المنطقة أية نتيجة إيجابية للتواجد الفرنسي على صعيد تقوية وبناء المؤسسات السياسية والاقتصادية في البلاد، فتصاعد الرفض لفرنسا من خلال مسيرات أسبوعية كل جمعة تقريبا وسط العاصمة باماكو.
المأزق… والجزائر
لم يعد خفيا أن فرنسا تواجه مأزقا حقيقيا في الساحل الإفريقي، وأنها بصدد إهدار ملايير اليوروهات سنويا، في عملية عسكرية لا تنتهي. وبعدما كانت تحصي قتلاها من الجنود، باتت اليوم تدافع عن سمعتها التي تتدهور من يوم لآخر أمام المنظمات الدولية. أمام هذا الوضع، ليس غريبا أن تلجأ باريس إلى الجزائر، لتطلب منها «مشاركة أكبر» في محاربة الإرهاب، في الساحل بحسب ما نقلته صحف فرنسية، باعتبارها القوة العسكرية الأولى في المنطقة.
الطلب الفرنسي ليس جديدا، فقد حاول الرئيس السابق فرنسوا هولاند جر الجيش الجزائري إلى مستنقع الساحل منذ 2012، غير أن الجزائر ترفض بشدة تنظيف الخراب الذي تسبب فيه الغير، لعدة اعتبارات مبدئية واستراتيجية.
باريس وبدل أن تغير خططها الفاشلة في المنطقة، تريد من الغير أن يغيّروا، بل ولا تتردد في تحويل الطلب إلى ضغوط ومناورات، توظف فيها أساليب تقليدية عبر تحريك رماد اللوبيات اليمينية لتنفث سمها في وسائل، أو أساليب حديثة توظف فيها بيادق وعملاء عبر وسائط التواصل الاجتماعي. فبعد ساعات قليلة من صدور تقرير مجموعة الأزمات الدولية، الذي أجهز على عملية برخان ووصفها بالفاشلة، بثت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي إشاعات تزعم مشاركة قوات عسكرية جزائرية في الحرب على الإرهاب في مالي، إلى جانب قوات «مجموعة 5 ساحل». وزارة الدفاع الوطني، ردت ببيان شديد اللهجة، على ما أسمته «دعاية لا يمكن أن تصدر إلا من جهلة يعملون بأوامر من مصالح نظام المخزن المغربي والصهيونية». وقالت، «تداولت بعض الأطراف وأبواق الفتنة عبر صفحاتها الإلكترونية التحريضية، أخبارا عارية من الصحة مفادها، أن المؤسسة العسكرية تستند في نشاطاتها وعملياتها الداخلية والخارجية إلى أجندات وأوامر تصدر عن جهات أجنبية».
وأضافت، بأن تلك الجهات «تزعم أن الجيش الوطني الشعبي بصدد إرسال قوات للمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود الوطنية تحت مظلة قوات أجنبية في إطار مجموعة دول الساحل الخمس (G-5 Sahel)»، لتؤكد «بأن الأمر غير وارد وغير مقبول».
دور محوري
لا تريد الأطراف التي تضغط لدفع الجزائر لتؤدي دور «المناول» أو «المقاول» في مهام الحرب على الإرهاب، أن تفهم ذلك «قلة احترام» وسوء سلوك في الآداب الدبلوماسية مع جيش بحجم الجيش الجزائري.
كما لا ينطبق مطالبتها «بدور أكبر» مع الواقع والحقيقة الميدانية. ويكون رئيس أركان الجيوش الفرنسية الفريق أول فرنسوا لوكوانتر، قد فهم جيدا الدور الجزائري في الساحل والفضاء المتوسط».
وتأكد أيضا أنها لن تعمل خارج إطار مبادرة لجنة الأركان العملياتية المشتركة (سيموك)، والتي تقوم خلالها بمبادرات ودعم لجيرانها في إطار تنسيق أمني وعملياتي، دون المساس بالسيادة الوطنية والترابية للدول.
لوبيات خلط الملفات
ترفض الجزائر الوقوع في مستنقع الساحل، وترفض أيضا تأدية دور الشرطي في مواجهة أمواج الهجرة غير الشرعية باتجاه القارة الأوروبية، وأعلنت ذلك صراحة على لسان وزير الخارجية صبري بوقدوم أثناء زيارته الأخيرة لإسبانيا.
كما ترفض أشياء كثيرة، جعلتها محل مساومة وابتزاز تمارسه لوبيات حاقدة تقاوم تطبيع العلاقات الجزائرية- الفرنسية على أساس الندية والمصالح المشتركة.
عجز هذه اللوبيات والنخب السياسية الفرنسية، عن التخلص من عقدة استعلاء المستعمر القديم، يجعلها تمارس خلطا متعمدا للملفات الشائكة بين البلدين، فهي تربط ظروفا داخلية للجزائر بملف الذاكرة وتوظفها في محاولة تقاسم أعباء قضايا إقليمية تورطت فيها فرنسا.
ويتجلى ذلك بوضوح في مقالات لصحف يمينية ووسائل إعلام الدولة العميقة للنظام الفرنسي، لم تستسغ اعتبار المسؤولين الجزائريين تقرير بنجامين ستورا، حول ملف الذاكرة «بالشأن الفرنسي-الفرنسي»، وتحاول جاهدة كبح جماح الرئيس ماكرون، وألا تطالب الجزائر بأكثر من مبادرات رمزية.
ولا يمكن لإتاحة جزء من الأرشيف المنتقى بعناية، أو لخطوات رمزية، أن تحل ذاكرة بعمر 132 سنة من الاستعمار الغاشم، وبتضحيات 5,5 ملايين شهيد وخسائر اقتصادية بملايير الدولارات.
وسيكون على من يستضيف عملاء وفاسدين، يمارسون الابتزاز السياسي والأخلاقي والخيانة الوطنية، وتبييض الأموال على التراب الفرنسي، بغرض توظيفهم كبيادق للضغط الدنيء في العلاقات الدولية، أن يتهيأ للقوميين ذوي النزعة العنصرية والانفصالية في الاستحقاقات المقبلة.