تعوّدت السّوق عندنا على الخضوع إلى معايير غير مسبوقة في تاريخ التّجارة، فالمواد ترفع أسعارها لأسباب لا تحتكم مطلقا إلى المعقول، والسّعر يرتفع إذا شحّت الأمطار، ويرتفع إذا انهمر الغيث، ويرتفع إن كانت المواد ناقصة، ويرتفع حين تكون موفورة، ويرتفع إذا يبست ويرتفع إذا أثمرت، ويرتفع إذا انتعشت البورصات العالمية، ويرتفع إذا انخفضت وساءت أحوالها، فسيّدنا «السعر» داهية في أفكاره، متنوّر في تأويلاته، قويّ في تخريجاته، ولا يترك فرصة للارتفاع ولا سانحة إلا يرتكبها ويستغلّها بمنتهى الأناقة..
ولم تكن هذه حال «السّعر» أيّام كان التّجار المحترفون يتوّلون التّجارة، فقد كان يدرك جيّدا أنّ خدمة النّاس هي الرّفاه الحقيقيّ، لهذا، اتفق تجّار زمان على أن لا تتجاوز الفائدة ثلث ثمن الشّراء، وجعلوا من اتفاقهم شرعا حظى بالإجماع، وطبقوه دون حاجة إلى رقيب، ولا إلى مراسيم وقوانين، وسارت أمورهم إلى كل خير، ثم خلف من بعدهم خلف، وجدوا في التجارة مرتعا سهلا، فخاضوا فيها وهم لا يمتلكون من أخلاقياتها شيئا، وأصبح رأس المال وحده القيمة التي تتحدّث، فانهمرت سيول المشتغلين بـ»الكابة»، وازدحمت الأرصفة بالباعة، وتراكمت «البازارات»، وصارت الأسواق تنبت كالفطر حيثما شاء لها التّجار الجدد، ونسي الناس صورة التّاجر الذي يخدمهم حين أصبحوا رهائن عند من يغشّهم وهم ينظرون، ولا يقدرون معه على شيء..
إذا كان العبد لله ينسى، فإنّه لن ينسى أبدا دمعة حرّى ترقرقت من عين تاجر حين علم بزيادة عشرين سنتيما في واحدة من المواد التي يشتغل بها، فحاول العبد لله حينها أن يطيّب خاطره، فقال له: وما يضيرك أنت، أنت تبيع، والفارق يدفعه الزبون، فما الذي يبكيك؟! هنالك تنهّد التّاجر بعمق، وردّ قائلا: يا اوليدي، النّاس ما عندهمش..
هذا التّاجر الذي عرفناه، ولسنا في حاجة إلى مقارنته بـ»الشيء» الذي صار يدعى تاجرا، وليس على لسانه سوى كلمة واحدة يردّدها بعنجهية: (أدّي ولا خلّي..).. فليرتفع سيّدنا «السّعر» كما يشاء، ولكنّه – مهما ارتفع – لن يصنع الرّفاه ولا الراحة ولا السعادة، لأنّ ما يؤخذ بالباطل من أرزاق الناس، يسترجع بالحقّ ممّن يرزق الناس، وهذه حال الدنيا كما ينبغي لها أن تكون..
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.