تحت عنوان كاذب اسمه محاربة الإرهاب بمنطقة الساحل، نجحت كل من فرنسا والولايات المتحدة في بناء طوق حديدي من القواعد العسكرية على طول الحدود البرية للجزائر في الاتجاهات الثلاثة، تعززت منذ سنة باتفاقيات عسكرية بين الولايات المتحدة والجارتين: تونس والمغرب،
وإنشاء قواعد برية وبحرية بها تلحقها بمنظومة «برخان» التي تكشف اليوم عن وجهها الكولونيالي الصرف بالنسبة لفرنسا، وكأداة تستغلها الولايات المتحدة لتشييد منطقة عازلة من الفوضى المستدامة، تمنع بناء طريق الحرير العابر لقلب القارة السمراء كعمل استباقي في المعركة الدولية القادمة على ثروات افريقيا.
العلاقات الجزائرية – الفرنسية هي اليوم في أسوإ حال على المستويات السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية. قد كشفت الأوضاع المستجدة منذ 2019 والتغييرات التي واكبت الحراك الشعبي مواطن الانسداد فيها وهي كثيرة، لا من جهة تراجع موقف الرئيس الفرنسي حيال ملف الذاكرة، ولا من جهة استماتة الدولة العميقة في فرنسا في تعطيل إعادة تطبيع العلاقات، ولا من جهة مواصلة تطويق الجزائر بحزام من القواعد العسكرية الفرنسية في دول الساحل، نراها تصنع منذ 2012 حدودا برية بين فرنسا والجزائر، تراهن على الزمن وعلى توفر أجواء مواتية لاستهداف الجزائر.
عملية التطويق بدأت منذ إطلاق عملية «سيرفال» في مالي في يناير 2012، بعد حدوث تدفق للأسلحة عقب عدوان النيتو على ليبيا، وبحجة محاربة الإرهاب، فيما كان الهدف الأول للعملية: إحباط اتفاق الجزائر بين فصائل معارضة من شمال مالي مع الحكومة المركزية، لتأتي بعد ذلك عملية «برخان» في 14 من شهر جويلية 2014 حين أعلن جان إيف لودريان وزير الدفاع الفرنسي -آنذاك- عن انطلاق العملية بالشراكة مع خمس دول من الساحل هي (تشاد ـ النيجرـ مالي ـ بوركينا فاسوـ وموريتانيا ) تحت عنوان «جي.5» واتخذ من نجامينا مقرا للقيادة العملياتية.
عودة محمومة لـ «الكولونيالية الفرنسية» للقارة السمراء
غير أنه وبعد يومين أقدم وزيرا الدفاع في مالي وفرنسا على التوقيع على معاهدة دفاع مشترك بين البلدين، قال عنها وزير الدفاع الفرنسي إنها سوف تسمح بتعريف أهم مجالات التعاون في مجال الدفاع وتبادل المعلومات والتشاور المنتظم حول المشاكل الأمنية والتكوين والاستشارة والتدريب والتجهيز»، ليتبين أن عملية «برخان» ليست سوى واجهة لعملية إعادة احتلال كولونيالي فرنسي لدول الساحل، تبدأ من مالي التي تشكل قلب منطقة الساحل وبوابة فرنسية لحديقتها الخلفية في دول غرب إفريقيا، فضلا عن كون مالي والنيجر يمنحان لفرنسا فرصة إحضار قوات تنتشر على الحدود الجنوبية للجزائر وتصنع لفرنسا حدودا برية مع جنّتها الضائعة في شمال إفريقيا.
ومن الواضح أن النشاط المنسوب للجماعات المسلحة الإرهابية، لم يكن بالحجم الذي يبرر هذا الإنزال العسكري القوي (أكثر من 5000 عسكري فرنسي) في مواجهة جماعات مسلحة لا يزيد تعدادها في أحسن الأحوال عن بضع مئات (ما بين 300 و1000 عنصر) وقد أثبتت العمليات العسكرية الكثيرة على امتداد دول الساحل، أن الحصيلة كانت مزرية، بالنظر إلى عدد العناصر التي تم تحييدها بالقتل أو الاعتقال طوال سبع سنوات منذ بداية عملية برخان. فيما كان أبرز انجازات عملية برخان هو بناء قرابة 17 قاعدة عسكرية فرنسية برية وجوية، منها 8 إلى 9 في مالي وحدها (انظر الخريطة رقم 1).
برخان: عملية تعويضية لفرنسا تواصل عدوان النيتو على ليبيا
في بداية عملية «برخان» كانت القوات الفرنسية المنتشرة تقدر بـ3000 عنصر و200 عربة لوجيستية و200 مدرعة، و4 طائرات درون، و6 طائرات مقاتلة وحوالي 10 طائرات نقل و20 طائرة مروحية قتالية، ليرتفع التعداد في فبراير 2020 إلى أكثر من 5100 عنصر بما يكافئها من العتاد القتالي ودخول طيران «الرافال»، ومشاركة بعض حلفاء فرنسا من «النيتو» بعدد غير معلوم من القوات، ناهيك عن مضاعفة القوات المحلية من الدول الخمس التي زاد تعدادها عن 20 ألف عنصر مقاتل.
فابتداء من 2018 وأمام زيادة الضغط على قوات الاحتلال الفرنسي، تداعت بعض دول حلف «النيتو» لدعم فرنسا، من المملكة المتحدة البريطانية بمشاركة بطيران المروحيات (ثلاث مروحيات شينوك) و90 عنصرا من القوات الجوية، ومن استونيا والدانمارك والسويد وتشيكيا ودعم لوجيستي أمريكي في مجال درونات المراقبة وتزويد الطيران الفرنسي جوا بالوقود.
ولأن هذا الإنزال العسكري الفرنسي الأوروبي كان مقدمة لأهداف غير معلنة لا صلة لها بالإرهاب، فإن أغلب التقديرات للجماعات المسلحة النشطة في عموم دول الساحل تضعها بين (300 و3000 عنصر) منها، حسب تقدير صحفي ليومية لوفيغارو، 800 عنصر لأنصار الدين، و700 عنصر لـ «آكمي». فيما قدرتهم باحثة أمريكية، هانة آرمسترونغ، بـ3000 عنصر في عموم دول الساحل، أغلبهم ينشطون اليوم في مثلث الحدود بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، فيما قدرت مصادر فرنسية رسمية سنة 2019 إجمالي العناصر النشطة بالساحل بـ2000 مقاتل منهم 1000 إلى 1400 في مالي، وهي أعداد قليلة في جغرافية صحراوية مفتوحة أمام الطيران، وأمام قوات فرنسية من وحدات النخبة الفرنسية، من اللفيف الأجنبي وقوات المظليين، وأمام أكثر من 20 ألف مقاتل من دول الساحل، على رأسهم القوات التشادية المتمرسة.
طوق من القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية حول جغرافية الجزائر
إلى جانب هذا التفاوت في الأعداد بين قوات الاحتلال الفرنسية المدعومة من «النيتو» ومن الولايات المتحدة، فإن القوات الفرنسية انهمكت طوال السنوات السبع الأخيرة على بناء قواعد عسكرية دائمة ومؤقتة في الدول الخمس لمنطقة الساحل، أغلبها في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
فمن القواعد الرئيسة المعلنة: قاعدة نجامينا بتشاد والتي تحتضن مركز القيادة لعملية «برخان»، وقاعدة بنيامي (النيجر) متخصصة في الاستخبارات والإنذار المبكر، وقاعدة «غاوو» بمالي، يعمرها 1000 عنصر فرنسي مقاتل، وأخرى بواغادوغو ببوركينا فاسو، تعمرها القوات الخاصة، تدعمها قواعد عملياتية بكل من «تسالي» شمال مالي بمحاذاة الحدود الجزائرية، وأخرى بقلعة «ماداما» بالنيجر، وثالثة بـ «فايا لارغو» بتشاد، يضاف إليها قواعد دعم لوجيستي بالخلفية في كل من داكار (السينغال) وأبيدجان (ساحل العاج) وثالثة بليبروفيل (الغابون)، ناهيك عن قواعد أخرى هي في طور الإنشاء، خاصة في مالي، ودون ذكر القواعد الأمريكية التي تساهم بنسبة 80 في المائة في العمليات الاستخباراتية لعملية «برخان» وفي الدعم الدروني لها، وبمائة في المائة في عملية التزويد الجوي للطيران الحربي الفرنسي.
غير أن هذا ليس هو الأخطر في مجال ما يجري من عملية تطويق محكم للجزائر بعقد من القواعد العسكرية، وبحضور عسكري في الاتجاهات الأربعة، فقد بادرت الولايات المتحدة إلى إبرام اتفاقيات عسكرية مع كل من تونس والمغرب تمتد من 2020 إلى 2030، تتضمن إنشاء قواعد برية جوية وبحرية قد دخلت النسخة التونسية منها العمل في المجال البحري كما في المجال البري، مع تنشيط قاعدة استخباراتية للإنذار المبكر على قرب من الحدود الجزائرية التونسية، وتنظيم مناورات مشتركة مع الحرس الوطني التونسي فتحت هذه المرة للقوات الفرنسية كنوع من التعويض عن خسارتها لمواقعها المتقدمة في تونس.
وبمثل هذا التدبير يجري العمل عليه مع المغرب، مع إمكانية بناء قاعدة أمريكية في الصحراء الغربية المحتلة، ما لم تغير إدارة بايدن من الموقف المزعوم المعلن عنه تحت إدارة ترمب.
وفي الحالة التونسية يبدو أن ثمة توافق فرنسي أمريكي بإلحاق تونس بمنظومة «برخان» وبالطوق الذي يتكثف حول الجزائر والذي ليس له أية علاقة بما يسمى محاربة الإرهاب، بقدر ما تتقاطع فيه الخطط الفرنسية بالخطط الأمريكية لعزل أهم بوابة لأفريقية في مشروع طريق الحرير الذي ليس له من جهة الشمال سوى ممر واحد هو الممر الذي ترسمه طريق الوحدة، والتي كانت موجودة منذ نهاية القرن التاسع عشر في المشروع الكولونيالي، كما تبينه خرائط أعدت لربط البحر الأبيض المتوسط بقلب إفريقيا وبمستعمرات فرنسا في الساحل وغرب إفريقيا.
«برخان» بين البعد الكولونيالي والرغبة في تطويق الجزائر
ثمة شواهد كثيرة على أن عملية «برخان» بعنوانها الكاذب: محاربة الإرهاب، هي صيغة جديدة لحملة كولونيالية بديلة في حساب الفرنسيين، الراغبين في بناء حدود برية عسكرية لفرنسا مع الجزائر، وحضور عسكري أمريكي استباقي يريد عزل شمال إفريقيا عن عمقها الإفريقي، ومنع أو في الحد الأدنى تعويق توغل صيني روسي مرتقب في قلب القارة عبر الممر الوحيد المتاح، الذي باشرته الجزائر منذ سبعينيات القرن الماضي، وأعادت إحياءه مع الشريك الصيني في مشروع طريق الحرير.
أول وأبرز شاهد على البعد الكولونيالي لعملية «برخان»، بعيدا عن العنوان المعلن للعميلة ضد ما يسمى بالإرهاب، أن العملية أثبتت فشلها عسكريا منذ البداية، رغم تعاقب سبعة جنرالات كبار من جان بيير بالاس منذ أوت 2014 إلى الجنرال مارك كونويلت منذ جويلية 2020 ورفع عدد العساكر الفرنسيين من 3000 إلى أكثر من 5100؛ حضور تقول مصادر فرنسية رسمية إنه يكلف فرنسا سنويا 600 مليون يورو، بما يكون قد كلف الخزينة الفرنسية أكثر من أربعة ملايير يورو منذ بداية العملية، بمعدل 120 ألف يورو عن كل عنصر مقاتل وهو رقم خيالي، إلا إذا كان جزء من هذه المبالغ قد صرف لتغطية نفقات إنشاء قواعد دائمة مكلفة، خاصة تلك الموجهة للطيران وللتجسس والاستخبارات الإلكترونية التي تتجاوز متطلبات محاربة بالإرهاب، وتهدف إلى بناء حزام متواصل من القواعد عبر دول الساحل، يقسم إفريقيا إلى نصفين، ويعزل شمالها عن الوسط والجنوب، عبر توزيع للأدوار بين فرنسا والولايات المتحدة، ليست محاربة الإرهاب فيه – على ما يبدو – سوى واجهة، تتستّر على استراتجية مزدوجة تقاطعت فيها مصالح الولايات المتحدة الرامية إلى حصار النفوذ الصيني الروسي المتصاعد، مع مصالح فرنسية بأجندتين متضامنتين: حماية حديقتها الخلفية في غرب إفريقيا، وإنشاء حدود برية معسكرة مع الجزائر لغاية في نفس «يعاقبة الأيليزيه».
استباق «ركبان» معارك طريق الحرير
وفي الجملة، فإن الانتشار الكثيف للقواعد الفرنسية والأمريكية بدول الساحل، وخاصة في مالي والنيجر، يخدم هدفا آخر يقطع الطريق أمام عبور «طريق الوحدة الإفريقية» الذي صار جزءا من مشروع طريق الحرير الصيني الرابط بين ميناء شرشال المستقبلي ونيجيريا، مع روافد له في اتجاه مالي ودول غرب إفريقيا، وربط ثلاث دول أخرى بالطريق: هي تشاد وتونس وموريتانيا.
وحده هذا الخيار، قد يبرر إنشاء هذا العدد من القواعد العسكرية الدائمة المكلفة، والتي سوف تشكل ورقة ضغط هائلة على مشروع طريق الوحدة، وتعوق تطويره بخطوط للسكك الحديدية من شأنها أن تحول دول الساحل ودول افريقية من وسط القارة ليس لها منفذ على البحر، إلى دول مفتوحة أمام التجارة العالمية، وتمنحها فرص تثمين ثرواتها المعدنية.
ولنا أن ندع أحد الخبراء العسكريين الفرنسيين يشاركنا تقييمه لعملية «برخان» في بعدها المعلن: كعملية لمحاربة الإرهاب. حيث حلل الجنرال «برونو كليمون بولي» وهو جنرال برتبة فريق، ومستشار دولي متخصص في الشؤون الإفريقية ومدير سابق للتعاون الأمني والدفاع بوزارة أوروبا والشؤون الخارجية، والذي خلص في مقال له نشر في 23 مارس الماضي، إلى فشل عملية «برخان» في محاربة ما يسمى بالإرهاب في منطقة الساحل، بل وأكد «أن الوضع الأمني بالساحل لم يتحسن رغم الإمكانات العسكرية الهائلة المجندة، بما يؤكد أن المقاربة الأمنية لعملية «برخان» قد بلغت حدودها، وأن الصورة التي ترسم اليوم للعملية في ذهن السكان المحليين، هي صورة لقوات أجنبية محتلة».
تحديات الجزائر لحماية فضائها الحيوي الاستراتيجي
وفي الجملة، يكاد هذا الخبير العسكري يتهم بين السطور عملية «برخان» بتنمية الفوضى، ومنع شعوب منطقة الساحل من فرص بناء الدولة الوطنية القادرة على فرض الأمن الاقتصادي والاجتماعي، الذي يحرم الجماعات المتطرفة من بناء «حاضنات شعبية» لها، بما يعني أن أهداف عملية «برخان» ليس لها صلة لا بمكافحة الإرهاب، ولا بتمكين دول الساحل من بسط هيمنة الدولة الوطنية، بقدر ما هي عملية كولونيالية صرفة تمنح فرصة لقوى الاستعمار القديم لإعادة بسط الهيمنة على المستعمرات القديمة، على الأقل في الأجندة الفرنسية، وبناء جدار عازل من الفوضى، ومن الأرض المحروقة، يقسم القارة الإفريقية بين شمالها ووسطها وجنوبها، ويعوق في حسابات الأمريكيين التوغل الاقتصادي الصيني، والعسكري الروسي في القارة، مع ضمان التطويق العسكري الكامل للجزائر بعشرات القواعد العسكرية على طول حدودها البرية: شرقا، وجنوبا، وغربا.
أكثر من محلل استراتيجي عربي وغربي تابع هذا التطويق العسكري الغربي للجزائر، مع تقسيم للأدوار بين الولايات المتحدة وفرنسا، ليشرح حجم الإنفاق العسكري الذي اضطرت إليه الجزائر، وتحديدا منذ عدوان النيتو على ليبيا.