يتناول الروائي والأكاديمي عبد القادر ضيف الله، في حوار، ثنائية السرد والنقد، مثلما يتناول ثنائية «أدب الصحراء» و»الأدب البوليسي»، وبين هذه الثائية، وتلك نحاول قراءة المشهد الثقافي الجزائري من منظور آخر. وعبد القادر ضيف الله، الأستاذ الجامعي أصيل مدينة العين الصفراء، يحمل دكتوراه في الأدب، وقبل ذلك عُرف كاتبا حيث أصدر كثيرا من الكتب في القصة القصيرة والرواية.
الشعب ويكاند: يُثار حاليا سجال عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين الكتابة السردية والنقد، أين تقف بين هذا وذاك وأنت المنتمي إلى الحقلين؟
عبد القادر ضيف الله: أعتقد أن الكتابة السردية اليوم أصبحت ظاهرة نظرا للكم الهائل من الأعمال التي تصدر تباعا كل سنة، وإن كانت في عمومها ظاهرة صحية تعكس وضعا ثقافيا متغيرا عن سابقه يبحث عن الاضافة والتطور، إلا أن غالبية هذه النصوص السردية الصادرة في الغالب عن دور نشر فتية تحت مسمى «رواية» خاصة تخرج للساحة الثقافية لتصاب باليتم ويظل يتمها هاجسا لدى مبدعيها ولدى الساحة الثقافية نظرا لغياب النقد سواء الاكاديمي أو الصحفي أو الانطباعي الذي عودتنا عليه بعض الأقلام الحرة الباحثة عن إثارة أسئلة جمالية تساهم في الترويج لهذه النصوص. لهذا أجدني كروائي وأكاديمي أقف بين هذين الفعلين الابداعيين، كمبدع أستشعر كما كل روائي جزائري هذا الغياب الفاضح للنقد وللنقاش الجاد عن راهن السرد الجزائري ومدى الاضافات الفنية والجمالية التي أضافها لتاريخ الرواية الجزائرية، وكناقد وباحث أكاديمي أحاول العمل مع طلبتي على دراسة النص الجزائري، وأعتقد أن ديدن الجامعة الجزائرية في عمومها، أن نسلط الضوء على النصوص الجزائرية سواء من خلال مذكرات التخرج أو من خلال البحوث التي لا تتوقف طيلة سنوات التدرج الجامعي، لكن ما يؤسف له هو بقاء هذه الدراسات التي ينجزها سواء أساتذة باحثين أو طلبة دراسات عليا حبيسة الأدراج ولا تجد طريقا للنشر لتصل إلى القارئ. وهذا أمر مؤسف جدا وأحد الأسباب المهمة في مشكلة الغياب التي تثير هذا السجال.
هل المشكلة في الناقد أسير قوالبه الجاهزة، أم في السارد (الروائي) الذي يريد نقدا على المقاس؟
أعتقد أن المشكلة حتى وإن تحمّل جزء منها الناقد الذي غاب كلية عن الساحة، وبالتالي عن متابعة ما يصدر وتقييمه على حساب متابعات موسمية لنصوص صنعتها دوائر الإعلام والميديا أو صنعتها جوائز العربية، وتحملها بعضها السارد الباحث عن نقد على المقاس فإنها تتجاوزهما إلى غياب مشروع ثقافي تتبناه الدولة ومؤسساتها التربوية والثقافية سواء على مستوى الجامعات التي لا تفكر في نشر وتوزيع بحوث باحثيها وطلبتها؛ أتحدث هنا عن البحوث المهمة التي تنجز بتوصية النشر من لجان تحكيم، الشيء الذي غَيّبَ النقد وجعله منحسرا في مدرجات ومخابر الجامعات، وفي النهاية يوضع في الأرشيف.
كما أن المشكلة أيضا قد يتحملها النص السردي الذي يحمل من الهشاشة أكثر ما يحمله من قوّة بقاء وانتشار بسبب استسهال كتابته ونشره عبر دور نشر لا يهمها إلا الربح السريع على حساب كل ما هو ثقافي وجمالي خاصة بعدما أصبح العالم الافتراضي يسهل النشر والكتابة على السواء ويمنح لقب الكاتب لأي كان.
كيف انتقلت من الكتابة عن الصحراء وشساعتها وهدوئها إلى الأدب البوليسي و»مؤامراته»؟
الحديث عن الانتقال هو في الحقيقة حديث عن الخوض في تجربة أخرى، أو الخوض في ما يسمى بالتجريب الذي أراه مسلك طبيعي جدا في مسار أي روائي يبحث عن تأسيس لمشروعه السردي، لهذا جاء انتقالي من الكتابة عن فضاء الصحراء إلى التجريب في فضاء سردي مغاير تفتقر له ساحة الرواية الجزائرية والعربية بالخصوص في ظل الرهانات التي تفرض علينا وعلى مجتمعاتنا العربية.
هذا الفضاء أو النوع الأدبي البوليسي، بالإضافة إلى أنه يدخل في مضمار التجريب لدي فهو وليد التحوّل السياسي والاجتماعي الذي يشهده مجتمعنا الجزائري، وفي الوقت نفسه هو محاولة لقراءة هذه التحوّلات ضمن سياق محلي وعالمي يمتاز بالمؤامرات والحروب والدسائس التي لا تتوقف في الجوار والمهددة لأمننا الداخلي، كل هذه الضغوطات تفرض كتابة معينة أو نوع أدبي يستطيع التعبير عنها وأعتقد أن الرواية البوليسية أو السياسية هي من تستطيع أن تقوم بذلك لهذا كتبت هذا الأدب.
على ذكر الرواية البوليسية، كيف تقيّم هذا النوع الأدبي في الجزائر، ثم ألا ترى أنه يحتاج إلى ثقافة تقنية و»سينمائية» عالية غير متوفرة في كثير من الحالات؟
يجب القول صراحة إننا في الجزائر نفتقد لهذا النوع من الأدب فهو غائب تماما إلا فيما ندر، وهذا بسبب غياب أولا التصنيف على مستوى الرواية أو حتى تصنيف الأنواع الأدبية الكثيرة، ثانيا بسبب غياب العلاقة بين الأدب والسينما، أو الأدب والمسرح، ففي كل بلدان العالم التي تفكر وتبدع في الوقت نفسه تجد هناك رابط بين الأدب والفنون الأخرى خاصة المرئية منها إلا عندنا الأدب في جهة والفنون الأخرى في جهة أخرى، بل أن حرفة الأدب عندنا هي حرفة ما لا حرفة له، لهذا الأديب غير معني بالسينما أو مغيب، وبلا أي أهمية في المجتمع وكأن ما ينتجه غير قابل للتداول ولا النفع لهذا لا يطلب منه أن يساهم في خلق نصوص تساهم في خلق رأي عام ولا نصوص جمالية قابلة لأن تحول إلى أفلام سينمائية تساهم في بناء الإنسان الجزائري الذي يبني وطنه ويحافظ عليه، وهذا ما يُساهم في غياب هذا النوع من الكتابة الذي رغم كل شيء إلا أن راهن التحولات السياسية والاجتماعية في السنوات الأخيرة قد فرضه فأصبحنا نسمع ونقرأ بعض محاولات الكتابة في هذا المجال، لكن السؤال المطروح من يأخذ بيد أصحاب هذه المحاولات ومن يدفع بهذا النوع من الأدب للانتشار وليتحول إلى أفلام سينمائية باعتباره أدبا مشهدي جاهزا ليتحوّل إلى أفلام سينمائية أو تلفزيونية.
من يفعل ذلك يبقى هذا السؤال مطروح كعادة الاسئلة المصيرية في مشروع المجتمع الغائب اليوم.
ولماذا الكتابة على صحراء تنزروفت المخيفة التي لم تكشف عن أسرارها بعد، وأنت الطارئ عنها، هل هي رهبة المكان أم حب المغامرة؟
الكتابة عن الصحراء كانت أوّل تجربة روائية خضتها، وعشت تفاصيلها باعتباري ابن الصحراء وجد نفسه في صحراء أقسى من الصحراء التي ولد فيها، ومن جيل التسعينيات الذي عاش هول الأحداث الدامية في الشمال وكان يومها الجنوب مكانا آمنا وملجأ للعديد من الشباب الجزائريين الذين تعرضت قراهم لتلك الأهوال أو للذين وجدوا أنفسهم يعيشون البطالة وجاءوا للجنوب للبحث عن عمل قار، ولأن الصحراء ليست سهلة العيش أو ماتعة كما يصوّرها السياح رغم مغرياتها، فإن العيش فيها والكتابة عنها مغامرة باعتبار الرتابة والسكون المخيف المسيطر على الفضاء، وفي الوقت نفسه هذه المغامرة ممتعة ومميتة لهذا سميت تنزروفت أرض العطش والموت.
تنزروفت أيضا وهذا ما سيكتشفه القارئ ليست صحراء بقدر ماهي جزائر التسعينيات التي خيبت آمال جيلي والأجيال التي جاءت بعدي لهذا لاتزال رواية تنزروفت تفتح شهية القراءة ولازالت العديد من الدراسات والبحوث الجامعية تنجز عنها إلى اليوم.
وماذا عن عملك الروائي الجديد، هل هو بحث عن فضاء آخر ومغامرة سردية جديدة؟
فعلا عملي الجديد الذي صدر في الشهور الأخيرة هو فضاء آخر وتجربة مغايرة جدا، على الرغم من أنه يتقاطع مع نص « تنزروفت» في الفضاء الصحراوي، وفي جانب كبير من أفكاره، وكذلك يتقاطع مع نص «زينزيبار» من حيث الصور المشهدية التي تعتمد على العقدة البوليسية، إلا أن الفكرة الأساسية التي بنيت عليها روايتي الأخيرة هي تيمة مختلفة تعد من الطابوهات التي لايزال النص العربي لا يقاربها إلا في النادر أو يتعامل معها بصورة عرضية فقط، وهي تيمة المثلية في علاقتها بالمجتمع.
تصور الرّواية أيضا المعنونة بـ «سوداد» وهي كلمة برتغالية تعني «الحنين»، مأخوذة من أغنية مغنية المورونا السيدة «سيزاريا ايفورا»، والتي ترصد مآسي الفقر والجوع والهامش، والحنين للأرض من جهة، ومن جهة أخرى تصور رواية سوداد راهن ما يحدث في الجزائر من خلال علاقة المثقف بالسلطة وعلاقة الهامش بالهامش والهامش بالمركز، بمعنى أن الرّواية تتعمق في التفاصيل الحياتية الخاصة التي يعيشها الجزائري البسيط، والمثقف والعسكري والتي لا ينتبه لها أحد أو تغيب ولا يدار حولها نقاش. هذه هي روايتي الجديدة «سوداد» التي تُعد تجربة مغايرة تماما أتمنى أن تجد قارئها المميز.