ليس هناك شعب يمارس سيادته ويبني مؤسساته في الشارع، وكل تحرّك للشعوب ترشده النخب بالعمل السياسي ومن الأفضل عبر توافق واسع.
لهذا، فإن البلاد كانت وما زالت في حاجة لضمان استمرارية الدولة في ممارسة وظائفها، فليس هناك دولة تتوقف لمجرد لحظة واحدة عن ممارسة سيادتها. لقد رأينا ذلك يتجسّد عبر مسار بدأ بالانتخابات الرئاسية أولا، ثم عبر الاستفتاء على الدستور وهو ما جسد بعضا من التزامات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون 54، ثم اليوم في تجديد المؤسسات المنتخبة أولا بالمجلس الشعبي الوطني، ثم بعد ذلك المجالس المحلية ثم مجلس الأمة.
إن كل فرصة لممارسة الشعب لسيادته هي لبنة تضاف في مسار بناء جزائر أخرى؛ جزائر جديدة بمؤسسات تشكّل بداية إحداث القطيعة مع أساليب تصرف سياسي أثبتت أنها لا ترضي جل الجزائريين والجزائريات.
ولعل القطيعة الأولى هي مع منطق سياسي عام؛ منطق يجعل الانتخابات مجرد محطة شكلية لا تعبّر بالضرورة عن اختيار الجزائريين ولا تعبر عن مستلزمات تلبية مطالب الغالبية الساحقة ولا تقيم وزنا للتحولات السوسيولوجية العميقة التي عرفها المجتمع. لهذا، فالقطيعة الأساسية هي مع تصرفات عمّقت الهوّة بين الجزائريين والسلطة ودفعت الكثير من الجزائريين لاستقالة شبه كاملة من الاهتمام بالشأن العام، ونشرت الكثير من الفساد وعرضت المؤسسات لتدهور خطير في مصداقيتها وفي علاقتها بالجزائريين وفي القدرة على أداء وظائفها ومهامها بالكفاءة اللازمة.
هذا المنطق كان يتغذى على تداخل فاسد ومفسد بين المال، خاصة الفاسد منه، وبين التمثيل الاجتماعي وجل أشكال الممارسة السياسية.
قانون الانتخابات الجديد، وتجسيدا لمحتوى الدستور ومنطقه وروحه، أحدث قطيعة فعلية حقيقية مع نظام انتخابي ثبت أنه أغلق الأبواب مع كل تمثيل حقيقي للناس ومصالحهم وتطلعاتهم وفتحه على ممارسات تخرج بوضوح عن كل منطق قانوني وعن كل ضوابط أخلاقية، فعمم الرداءة والزبونية ووسع من فضاءات اللاقانون وجعل كل شيء رهن من يدفع أكثر، من المكانة في القائمة الانتخابية إلى صناديق الاقتراع.
إن القطيعة الأخرى التي توخّتها هذه الانتخابات التشريعية، هي في الانتقال التدريجي من جيل إلى جيل آخر، حيث شجعت السلطات العمومية الشباب والنساء على خوض غمار طلب التزكية الشعبية، وهي ستكون بداية ستوضح الأرقام النهائية للاقتراع أهميتها وما يتبقى من مراحل استكمالها، ثم القطيعة مع نظام سياسي انفصل تدريجيا عن حقائق الواقع حتى صار هو مشكلة الجزائر والجزائريين وعرّض الدولة لمصاعب كثيرة ومخاطر جمّة حتى وضع الحراك نقطة نهاية له.
من ناحية أخرى، وهو ما سجّله جل الملاحظين، لأول مرة هناك علامات استفهام من دون أجوبة، فلا أحد يعلم سلفا، كما كان الحال في النظام السابق، على أي صورة سيكون المحتوى السياسي للمجلس المقبل، ولمن ستكون الأغلبية، هل ستؤول الأمور لتحالف سياسي وتحالف من مع من، وغير ذلك من علامات الاستفهام.
يبقى أن علامة الاستفهام التي يتوقّف عندها المراقبون هي نسبة المشاركة، لأنها هي التي تجيب على علامات استفهام لا تقل أهمية، منها هل تمكّن المترشحون من إقناع الجزائريين بالعودة للاهتمام بالشأن العام وبالانتخابات وهل سيحظى المجلس المقبل بشرعية قوية وهل سيتوفر على كفاءات قادرة على مرافقة مسار التغيير وتعميقه وبناء منطق سياسي آخر وعلى القيام بالدور الرقابي على عمل السلطة التنفيذية وعلى صرف الأموال العمومية الذي يمنحه له الدستور الجديد؟
مهما كانت الإجابات التي ستسفر عنها الانتخابات التشريعية، وهي تجربة أولى ينبغي عدم تحميلها أكثر مما تحتمل، فإنها بداية مسار في حاجة لمزيد من النضال ومن العمل الوطني الصادق، حتى يتم جسر كل هوة بين الناس ومؤسسات الدولة التمثيلية وبين كل الجزائريين والوصول إلى تجسيد غايات المشروع الوطني النوفمبري كما وعد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.