في مجال الأمن الغذائي نطرح مرة إثر أخرى، تلك النماذج الحقيقية التي تستحق أن نضاهيها أو نتعلم منها سر النجاح، لذلك التحول الكبير الذي نحن- للأسف- دونه بمراحل.
يتجلى بوضوح أن مسارات الإنسانية الكبرى والصغرى تتكرر بشكل متوال، فنهضة الإنسان الآسيوي الذي كان بالأمس تحت نير الاستعمار البريطاني ولا يضاهي نفسه مع الأوربيين، هاهو اليوم يتقدم بقوة وبشكل فارق حتى أمام الدول التي احتلته مثل الهند التي تجاوزت بريطانيا وأصبحت القوة الاقتصادية الخامسة في العالم، كما فعلت الصين لتتجاوز في ظرف أربعين عاما كلا من اليابان وبريطانيا.
كانت ولا تزال هولندا الصغيرة جغرافيا والكبيرة اقتصاديا، أنموذجا فارقا في الإنتاج الفلاحي. فالبلد الذي يطعم العالم ويحصل على دخل سنوي من قطاع الفلاحة يزيد عن 100 مليار دولار أمريكي، تتجاوز مساحته 41543 كلم مربع منها فقط 33893 كلم مربع يابسة وتغطي المسطحات المائية مساحة 7650 كلم مربع، وتعتبر الجزائر جغرافيا أكبر منه بــ60 مرة، بينما تبلغ مساحة الأرض الصالحة للزراعة 54 بالمائة، ما يقارب 17960 كلم مربع من إجمالي مساحة البلاد، منها 11 بالمائة غابات.
يتساءل البعض، كيف لهذا لبلد الصغير أن يطعم العالم، بينما مساحته صغيرة ويأتي ثانيا في الصادرات الزراعية بعد الولايات المتحدة التي تتجاوز مساحتها 9 ملايين كلم٢، وهنا يكمن سر «المعجزة» الهولندية في الفلاحة، الذي لا تخلو مساحة منه في الريف أو المدينة وحتى على أسطح المنازل من البصمة الخضراء.
كانت البداية من المجاعة التي ضربت البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قضى «شتاء الجوع الهولندي» على أزيد من عشرين ألف هولندي في الأشهر الأخيرة من الاحتلال النازي، ومنها قرر الهولنديون مضاعفة إنتاج الطعام باستخدام موارد أقل وأساليب جديدة في الابتكار والعمل الجاد، فطوروا تقنيات حتى يخيل أنها في عالم آخر من المستقبل الزراعي الباهر.
مثلت التكنولوجيا الزراعية وتوظيفها الذكي لمقدرات العلم والابتكار، إضافة إلى التطوير المستمر بالتجديد والتنويع في الابتكار والإنتاج، إلى أن تصبح هولندا معجزة زراعية ملهمة.
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.