تحدث مدير المركز الوطني للأرشيف ومستشار رئيس الجمهورية مكلف بملف الذاكرة عبد المجيد شيخي، في حوار لـ «الشعب»، بمناسبة الذكرى 59 لعيد الاستقلال، عن أول دخول مدرسي وتحدي ضمان تمدرس كل أبناء الجزائر.
وأكد شيخي أن هذا الدخول كان ملحمة ثانية تستحق التدوين، بحكم أن البلد كان محطما دون إمكانات ولا إطارات كفؤة، وأشاد بمساعدة الأشقاء العرب في التعليم.
اعتبر شيخي ظاهرة تخوين الرموز الوطنية تجاوزا كبيرا لابد على المثقفين التصدي له، مشيرا إلى أن استكمال المشروع الوطني طويل النفس ويحتاج للرزانة، وفي المقابل كشف عن إعداد شبكة متكاملة تكون على مستوى الوطن تسمح للمواطن العادي بالإطلاع على مخازن الأرشيف من بيته.
التعليم في أول دخول سنة 1962 ملحمة ثانية يجب أن تُكتب
يمر 59 عاما على استرجاع السيادة الوطنية وتجسيد الاستقلال، ولا يزال الحديث حول تلك الملحمة، ما هي العبر التي تقتدي بها الأجيال؟
«عبد المجيد شيخي»: حقيقة كانت ملحمة والعبر التي يمكن أن نستخلصها كبيرة جدا. الشعب الجزائري عانى ما عانى من ويلات الاستعمار، من التفتيت والتشتيت والتدمير والتجهيل وتمكن بفضل الله وإرادة أبنائه البررة أن يتوحد في نهاية المطاف، لأن هذه هي الميزة الأساسية التي افتقدها حتى خلال المقاومات الوطنية، هذه الأخيرة كانت جزئية ولم تكن مقاومة تغطي كافة التراب الوطني للتصدي لاستمرار الاحتلال، مما أعاق مسارها الى ان جاءت ثورة اول نوفمبر.
وصل الشعب الجزائري بعد سنة 1947 إلى قناعة وفئاته السياسية على اختلاف ألوانها كانت تقف أمام سؤال كبير جدا، ما العمل؟ فمنهم من اتخذ القرار الحاسم بضرورة التوحيد، وهذا أول عنصر من عناصر الإنتصار. العبرة التي يمكن أن نستخلصها في وقتها وبعدها، هناك عناصر أساسية اعتمدت لتحقيق هذه الوحدة وهي القناعة التامة لدى جزء كبير من الشعب، مثلما قال الشيخ عبد الحميد بن باديس: «إن الجزائر ليست فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولو أرادت».
وبالتالي اقتنع الناس بأن هذا الوارد الدخيل يجب أن يذهب مثلما جاء بالعنف يجب أن يخرج بالعنف، هذه النقطة الثانية، يجب أن نكون موضوعيين سياسة «فرق تسد» التي طبقتها الادارة الاستعمارية نجحت في بعض الأمور ونجحت مع بعض الفئات.
والنقطة الثالثة، هي أن الاعتماد على النفس أولا لم يستشر أي بلد من البلدان المجاورة أو الصديقة أو الأشقاء في نقطة إنطلاق الثورة الجزائرية، هذه الأخيرة اندلعت بإمكاناتها مهما كانت هزيلة في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك ذاع صيت الثورة وبدأ التأييد يأتي من كل صوب، هذا عنصر كبير يجعل المجاهدين والمناضلين تتكون لديهم ثقة أكبر في النصر.
والعبرة الأخرى، هي أننا استشرنا في الكثير من الحالات وتحصلنا على التأييد اللازم والمساعدة، رغم الظروف السياسية التي تعيشها المنطقة فإن الأشقاء في المغرب وتونس فتحوا لنا ذراعيهما، وقاموا بإيواء جزء من الثوار وهذا ما جعل الانتصار ممكنا.
البناء الوطني يبدأ من الأساس وهو تاريخ الجزائر كاملا
في هذا الإطار، هناك ممارسات سلبية عديدة أضرت بصورة إنجازات مختلف مراحل ما بعد الاستقلال، ما هي المقاربة التي تنهي خطاب التشكيك وتسمو برسالة أول نوفمبر، خاصة في زمن شبكات التواصل الإجتماعي؟.
هذا الموضوع شائك وبسيط في نفس الوقت. ما أصاب الجزائر في مرحلة ما بعد الثورة، أن شباب اليوم لا يقدّر المسيرة التي مر بها الشعب الجزائري ابتداء من يوم 3 جويلية 1962، استرجعنا بلدا محطما وليس فيه إمكانات لا بشرية كفؤة ولا خبراء، وبالتالي انطلقنا تقريبا من الصفر، وكيف يمكن بناء بلد ليس فيه إطارات.
السلطات الفرنسية لم تكوّن إطارات والثورة الجزائرية في ظرف قصير حاولت أن تطور إطارات، لكن ليس بالعدد الكافي لتولي مسؤولية البناء، مما جعل مسيرتنا تتعثر لنقص المعرفة، كان علينا أن نفتح المدارس على مصراعيها، وفتحنا المدارس.
لكن التكوين لم يكن في المستوى المطلوب منذ البداية، بدأت الأمور تتحسن ابتداء من السبعينيات عندما بدأت الجامعة تخرج إطارات، لكن إطارات ربما تتوفر على الجانب النظري وليس لديها الجانب العملي التطبيقي.
لا أحد مارس مسؤولية تسيير بلدية مهما كانت صغيرة أو كبيرة، هذه المسائل يجب أن تقدر حق قدرها، ولا نرمي الماضي بالحجارة. عملنا بالقدر الفكري الذي كان لدينا والاستعداد كان كبيرا ان تقع فيه اختلالات، هذا كان من الضروري وقوعه، في كل المسائل نسميها تجربة لأن هذه الأخيرة هي التي تحسن الأداء، أخفق وأجرب وفي المرة الثالثة أكون أقرب إلى الصحيح.
يجب أن توضع مسيرة 59 سنة من الاستقلال في إطارها الحقيقي وتدرس دراسة متينة، ويجب أن تكون هذه الدراسات التي يتولاها علماء الإجتماع في متناول الناس، لا نترك رسائل دكتوراه في رفوف الجامعات.
أما فيما يخص شبكات التواصل الإجتماعي، كل من يكتب في وسيلة من هذه الوسائل يعتبر نفسه خبيرا، بينما هو لا يفقه شيئا، لديه رأي في كل شيء، أصحاب الرأي لديهم مجال وأصحاب التلقي مجالهم واسع، عندما نقارن جيلنا الذي عاش فترة الاستقلال وهذه الفترة، تقول إن الجزائر لم تخفق، عندما تبني رأيك على هذه المسافة الزمنية الطويلة تجد أن فيه انجازات من حيث عدد الطلبة والجامعات.
وبالرغم من أن المستوى الآن هش، الجامعة الآن تعج بالطلبة، والمتخرجون لا يجدون مناصب عمل في تخصصاتهم، هي من المسائل التي تعكف الدولة على حلها بما يتوفر من إمكانات والرجوع إلى المحيط الذي تعيش فيه الجزائر، وهو محيط ليس سهلا.
وبالتالي قد تخصص موارد وإمكانات لغير ما تريده فئة الشباب، هذا الأخير يأمل أن تكون له مخابر وإمكانات لتنمية معلوماته. تعلمون أن الجزائر مرت على مراحل صعبة جدا، كان فيها التحطيم والإطارات تغتال، هذه المسائل لابد أن تترك أثرا في المجتمع.
من اندفعوا للتدريس غداة الاستقلال لم تكن لديهم شهادة مهنية
غداة الاستقلال كان هناك تحدي توفير التعليم لكل الجزائريين، أنت من بين الذين لبوا نداء تعليم كل أبناء الجزائر، حدثنا عن تلك التجربة في أول دخول مدرسي في أكتوبر 1962؟.
هذه التجربة أعتز بها، لأنه في صيف 1962 كلفت من طرف جيش التحرير الوطني بالمنطقة التي كنت فيها، برصد كل من يمكن أن يكون معلما. المعلمون الفرنسيون غادروا والمعلمون الجزائريون قلة، وبالتالي الثورة وعدت بأن يتمدرس كل أبناء الجزائر في الدخول المدرسي الأول، وهذا تحدّ كبير لأنه من حيث عدد المعلمين لا يوجد الكثير، مع قلة المدارس.
التعليمات التي أعطيت لي حتى إذا لزم الأمر اختيار من يستطيع تركيب جملة مفيدة على الأقل لضمان تمدرس كل الأطفال، في أول أكتوبر 1962 بدأ التعليم في جو ما زالت فيه المدرسة الفرنسية تشتغل، المعلمون الفرنسيون منهم من درسنا وبقوا في مناصبهم منهم من تولى الإدارة بحكم التجربة، ونحن بدون تجربة. الشيء الجميل في هذه الذكريات، هو أننا يجب أن نتصرف حيال هذا الوضع فلا برنامج محددا ولا كتابا مدرسيا متوفرا، وتطبيق البرنامج الفرنسي لا ينفع لأنها مسألة كرامة.
كان لابد من انتقاء النصوص التي يمكن أن تعتبر بريئة، المعلم كان يدرس كل المواد الحساب، التربية، الخط، الجغرافيا والتاريخ، وبالتالي يتأرجح بين ما يمكن أن يكون في ذهنه ويستند لبعض المراجع، كان إقبال شديد جدا في أول دخول مدرسي.
الذي أذكره هو اهتمام أولياء التلاميذ عند رؤية أبنائهم يخرجون من البيت متوجهين نحو المدرسة الجزائرية، حاملين الكراريس وهم فرحين.
عند تعيين أول وزير للتربية قبيل افتتاح السنة الدراسية في 25 سبتمبر 1962 تشكلت الحكومة الأولى وكان المرحوم بن حميدة أول وزير للتربية.
فهو أيضا كان يقف أمام تحديات جزائر عربية مسلمة والمدرسة الفرنسية كانت فيما يقال إنها لائكية وهذا غير صحيح ثم كيف ندرج اللغة العربية، لأنها غير موجودة في المدرسة، هل المعلم من تلقاء نفسه يدرجها أو ينتظر التوجيهات، خاصة وأن الحكومة جديدة فكل واحد عليه التصرف، مثلما يقال بالعامية «عوم بحرك».
ما ساعدنا هو أن التلاميذ الذين إلتحقوا بالمدرسة، خاصة في السنة الأولى أو الثانية ابتدائي، درسوا القرآن في الكتاتيب، حافظين للسور القصيرة ويعرفون الحروف، هذا يساعد على دروس الأخلاق.
كانت تجربة جميلة وفيها اندفاع وإخلاص المعلمين. ثم بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية عندما بدأ التنظيم وأدرجت اللغة العربية في سنتي 1963 و1964 وبدأ تكوين الممرنين لأنه لا يوجد مستوى ولابد من تكوين المعلمين، هذه أيضا تجربة أخرى، وأشير هنا أن من اندفعوا للتدريس لم تكن لديهم شهادة مهنية للتدريس.
ألم يتم الاستعانة بالطلبة الذين كانوا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؟
بلى استعانت بهم المدرسة، لكن لم تستعن بهم في كل مكان لعدة أسباب، أولا أن أغلبيتهم إلتحقوا بجيش التحرير الوطني والبعض منهم بقي في الجيش في السنوات الأولى للاستقلال وبالتالي كان بعيدا عن المدرسة. من بقوا منهم من كان في السجون وخرج مريضا، لكن كانوا هم المرشدين ويساعدوننا.
ثم تنظيم الدولة يقتضي أن يكونوا منظمين حسب نصوص القوانين ويعترف لهم بمستوياتهم، ليس مثل الممرن، هذه المسائل سويت سنتي 1963 و1964، الكثير منهم اتصل بوزارة التربية منهم والدي بعد إتمام مرحلة جيش التحرير، كان لابد أن يثبت مستواه، هو من طلبة الشيخ عبد الحميد بن باديس، لكن بدون شهادة، إذن كان على وزارة التربية أن تفصل في هذه المسائل.
حقيقة فصلت فيهم، هناك من منحتهم مستوى معلم وفيهم من منحتهم مستوى مدرس، والذين درسوا في الزيتونة والأزهر منذ البداية طعموا بهم الجامعة، منهم من درس في الجامعة وهو متحصل على شهادة ليسانس. أنا درست عند الشيخ عمار طالبي توفي واحد منهم مؤخرا وهم من الإخوان الذين توجهوا مباشرة إلى الجامعة، هذه ملحمة ثانية يجب أن تكتب في يوم من الأيام.
التعليم بالعربية تطلب استقدام أساتذة من المشرق العربي
استعانت الجزائر أيضا بأساتذة من المشرق بالتحديد من مصر، سوريا والعراق؟
كانت تقريبا من أوجب الواجبات، لأن الثورة وعدت بأن أبناء الجزائر يجب أن يتمدرسوا. استعنا بالقليل من الفرنسيين، لأن المعلمين الذين كانوا لدينا في الفرنسية كانوا كفاية في التعليم الإبتدائي أو المتوسط أو الثانوي، أما بالنسبة للتعليم باللغة العربية كان من الضروري تدعيم المدرسة بكفاءات عالية من أشقائنا في المشرق العربي.
فأرسلت وزارة التربية وفودا إلى كل من مصر وسوريا والعراق لجلب أساتذة، وبالفعل قدموا إلى الجزائر ودرسوا معنا وكان فيهم من أبلى البلاء الحسن، رغم كل ما يقال من انتقاد لهؤلاء فإنهم في أغلبيتهم قاموا بأكثر من واجب. المشكلة التي صدمت البعض من الناس، هو أنهم كانوا يتكلمون مع التلاميذ الدارجة المصرية أو السورية أو العراقية والتي لا يفهمها أبناؤنا.
المعلم يجب أن يكون قريبا من التلميذ، في بلدهم لا يطرح هذا المشكل لأنهم يتكلمون نفس اللهجة، لكن عندما يأتي إلى بيئة تختلف عن بيئتهم يكون فيه صعوبة الفهم. علما أن الدارجة الجزائرية أقرب إلى العربية ولهجتهم في كثير من الأحيان نابعة من أجواء كثيرة من بقايا من العثمانية، مما أحدث حساسية. بالنسبة لي أحيي هذا المجهود الكبير الذي قاموا به وقد عاشرت الكثير منهم وعملت معهم.
نعود لملف الأرشيف، هل يمكن إعطاءنا إحصائيات حول حجم الأرشيف الجزائري الذي تم استرجاعه لحد الآن؟.
لسنا بنك يحسب أوراق نقدية، نحن مخزن لأرشيف مهم في غالبية الأحيان، وعادي في أحيان أخرى، وبالتالي لدينا تصنيف أرشيفي وهي أرصدة منها الرصيد العثماني، الإستعماري، ورصيد ما بعد الاستقلال وهي أرصدة غنية جدا.
هل لديكم بوابة رقمية للأرشيف؟.
ستكون قيد العمل قريبا، قمنا بإعداد أرضية رقمية سابقا، لكنها توقفت بسبب ضعف قوة تدفق شبكة الأنترنيت بالموقع. نحن بصدد إعداد شبكة متكاملة تكون على مستوى الوطن ويمكن للمواطن العادي أن يطلع على مخازن الأرشيف والوصول اليه من بيته والعمل جار حاليا.
إعداد شبكة متكاملة وطنيا تمكن من الوصول إلى الأرشيف من البيت
ما هي مساهمة مركز الأرشيف الوطني في الحفاظ على الذاكرة؟.
هذا يطرح إشكالية، هي أن الذاكرة لها جانبان، ما يعلق بذاكرة الناس، لكن ما هو موجود في الأرشيف وبالتالي العمل متكامل. الأرشيف هو خزان يكاد يكون رسميا، مع أن الكثير من الوثائق ليست رسمية، لأشخاص توارثوها بعد ذلك وضعوها في الأرشيف.
لكن الذاكرة تحسس انطلاقا من الأرشيف، معلومة في الأرشيف يمكنها أن تحرك ذاكرة، وبالتالي الاعتماد على الأرشيف أساسي، وعلى ذاكرة الأشخاص هذا يعود للمؤرخ هل يعتبر الذاكرة مصدرا من المصادر وهذا هو الأصح أم أنه يستبعده.
وفي الجزائر مادام أغلبية أرشيفنا موجودا في الضفة الأخرى وهو سلب منا، فلا مفر لنا من أن نستعمل المراجع البديلة، لأنها تساعد المؤرخ على معرفة الجو الذي وقعت فيه الأحداث، لأن تفسير التاريخ ليس سهلا، يجب إعادة إحياء البيئة التي وقع فيها الحدث ومن يحيي ذلك إلا ما يتذكره الأشخاص.
كيف نعتمد على ذاكرة ورثها جيل بعد جيل عن المقاومات أو في العهد العثماني، فيه عناصر في الذاكرة تجعلك وكأنك تعيش ذلك الجو. صحيح أن فيه الكثير من الرومانسية، لكن عندما ترجع للشعر والقصة الشعبية والقصص التي كانت تروى من قبل الأجداد، تجد أن هذه القصص تلمم الكثير من الأحداث التاريخية وتقدمها في أسلوب يفهمه الطفل وتشحذ عنده الإرادة وتعطيه الشجاعة والصبر والأخلاق.
كل هذه المسائل يحتاجها المؤرخ لفهم بعض الأمور، هناك بيئة كاملة تنتقل في الذاكرة تعلق بها رواسب على المؤرخ أن يبعد ما هو غير موضوعي، وبالتالي الرجوع إلى الأمور الشعبية التي تتداول في الأسرة وعند بعض الأعيان الإجتماعيين، أي ما يسمى بأعمدة القبائل الذين حياتهم متيسرة، تكون لديهم رصيد ومادام كانوا في مستوى اجتماعي لا بأس به ينقلونها للأحفاد وهذه الأمور كلها تدخل في ميدان الذاكرة.
هل عملية استرجاع الأرشيف ماتزال متواصلة؟.
هي متواصلة لا تتوقف. ونحن نمر، كبقية العالم، بجائحة كورونا أوقفت كل شيء حتى اللقاء مع زملائنا في المجلس الدولي للأرشيف أو في دور الأرشيفات العربية أو الأجنبية قلّت جدا وحتى المراسلات أصبحت قليلة جدا، نحاول العمل داخل جدراننا حتى داخل الوطن النشاط قل جدا.
نلاحظ أن المصادر التاريخية الأجنبية أكثر من الجزائرية، ألا يقع عبء على المؤرخين في معالجة هذا الأرشيف. علما أننا نعتمد كثيرا على المصادر الأجنبية مما يمس بذاكراتنا؟.
بكل أسف، أن الكثير من المثقفين في هذا البلد الطيب والمؤرخين الأكفاء والمخلصين نادوا منذ زمن، وكنت معهم ولازلت، بتشكيل وتكوين المدرسة التاريخية الجزائرية. يعتقد البعض أن هذه المدرسة هي فرع يوضع في الجامعة، لا هذه مدرسة فكرية يجب أن ننقذ المدرسة التي سادت ولازالت، ونستخلص منها كل العناصر التي يمكن أن تدخل في تشكيل المدرسة الجزائرية؛ بمعنى أننا نفكر في التاريخ كجزائريين وننطلق من منطلقاتنا ولا ننطلق من منطلقات غريبة عنا.
هذا مع الأسف لم يتم إلا قليلا. الجامعة بحكم حرية البحث تترك للطالب الكتابة في موضوع تاريخي مثلما يحلو له، لكن هذا مبالغ فيه لابد من توجيه من طرف القائمين على رسائل الدكتوراة أو رسائل الماجستير أو حتى مذكرات الليسانس، هذا التوجيه يجب أن يأخذ عناصر الوطن ويدخلها في البحث التاريخي، بحيث تكون الحارس الأمين لنصل إلى تحليل يختلف أو يتميز بإنشاء منهجيات وطرق تفكير تنطلق من واقع بلدنا على مر العصور.
صحيح أن الكتابات الفرنسية غزيرة، هذا لنقص الكتابات الجزائرية. والكتابة الجزائرية الآن لا يمكنها تغطية الكتابات الأجنبية، بسبب أن رسائل الدكتوراه والماجستير لا تنشر، عندما تصل الرسالة إليك والكتاب مطبوع من فرنسا وانجلترا فيما يتعلق بالتاريخ، الطالب أو المؤرخ الجزائري وحين يقارن يجد بأن هناك فرقا كبيرا في الطرح، لأن ذلك ينطلق من منطلقات.
والإنسان الجزائري إذا كان عنده كفاءة للانطلاق من منطلقات، أكيد أن هذا يكون أقرب إلى الحقيقة. لكن هذه المسائل لم يفصل فيها، النشر هو الذي يفصل فيها على نطاق واسع. هناك قاعدة في الاقتصاد مفادها، أن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، حتى الإنتاج إذا كان الطالب يجهد نفسه، ويقدم بحثا أو رسالة دكتوراه، مهما كانت قيمتها فيه لجنة قيمته أنه يستحق شهادة دكتوراة تقدم له.
هذه الرسالة يجب أن تصل إلى الطلبة والشعب ويدرسها. هل الخوف من النشر هو الخوف من النقد، هناك فرق بين النقد والانتقاد، النقد العلمي ضروري لا يمكن تقدم العلم بدون نقد هذا مستحيل، إما الإنتقاد فمسألة أخرى، الطعن في كفاءة الطالب والأستاذ الذي أشرف عليه هذا غير مقبول.
لا يمكن أبدا أن نطعن في كفاءة شخص، إلا من حيث العمل، لكن النقد يكون علميا وليس بسبب أضغان أو حقد على فلان وأجرح فيه حتى في وسائل التواصل الإجتماعي وهذا ما أوصلنا إلى ما نلاحظه من تشويه لكفاءات وشخصيات وطنية، إذا كان كل شخص يعتقد في نفسه أنه مؤرخ فهذا خطأ كبير.
التاريخ حسب ما عرفه ابن خلدون تعريفا كاملا هو المادة التي يلتقي فيها جميع الناس، كل واحد يحتاج التاريخ. أريد تبرير موقف سياسي أبحث في التاريخ لعل وعسى أن أجد ما يدعم موقفي، لكن هذا لا يجعل مني مؤرخا، أريد تمرير فكرة أبحث في التاريخ كيف أمررها لا يجب تسييس الأمور.
لكن هناك التزام أساسي وهو أن الإنسان لا يطعن في الأصول، والشخصيات الوطنية على مر الزمن هي من أصول هذا الشعب. إذا كان فيه خلاف يكون بين المؤرخين يسوّى بينهم وليس في الشارع، مثلا شخصية ماسينيسا وقع فيها خلاف بين المؤرخين، هناك من يقول إنه كان عميلا للرومان لأنه تحالف معهم والآخر يقول لا كان رقيبا لكليوبترا في شمال إفريقيا، لأن مركز السلطة كان في مصر، يجب النظر في شروط التحالف وهذا الأخير ليس عمالة.
في تلك الظروف لا يوجد لا دين ولا لغة سائدة ولا عناصر وطنية، كانت عناصر أخرى وهي عنصر القبيلة، لا أستخدم عناصر اليوم وأصبها على الماضي، مثلا الجنسية عندما أتناول شخصية من الشخصيات في العهد العثماني أو في العهد الرستمي، أقول لم يكن هناك جزائري، في ذلك الوقت لم تكن جنسية تسمى الجنسية الجزائرية، يجب أن يقتنع الناس بأن الجنسية أمر حديث ولم يظهر إلا بعد احتلال الجزائر.
أول قانون جنسية في العالم ظهر في سبعينيات القرن التاسع العاشر وهو قانون الجنسية العثماني هو الأول، لا يمكن القول إنه في القرن 15 هذا ألماني وآخر فرنسي، كانت عوامل أخرى ومقاييس وطقوس أخرى. كان الإنتماء للأرض والملك، لذا لا يجب خلط الأمور ونعتبر ما يتفق عليه الآن قانونيا وسياسيا في العالم أسقطه على القرن الأول والثاني ميلاي.
في هذا الإطار نرى اليوم أطرافا تشكك في الرموز الوطنية، منها الأمير عبد القادر، الذي يعتبر رمزا من رموز الجزائر، كيف يمكننا الحفاظ على رموزنا الذين يتعرضون للتشويه؟.
هذا خلاف مدرسي بين مؤرخين ويسوّى بينهم لا يجب تسييس الأمور، لا يحل في وسائل التواصل الإجتماعي والبلاطوهات التلفزيونية، كل البلدان في العالم مبنية على رموز، بل هناك من البلدان من يبني وجوده على أساطير. في الجزائر تاريخنا لا يحتاج إلى أساطير، كل شيء واقع. بينما عندما تلاحظ تشكيلة الدولة الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية مبنية على أساطير مؤسسة، اتفقوا عليها ولا تناقش.
في العلوم الإجتماعية تسمى الميتولوجيا خرافات، سارت في العالم. كلوفيز هو مؤسس الدولة الفرنسية سارت هكذا، صحيح أم غير صحيح سارت على هذا النحو.
أبطالنا ورموزنا في الوطن يجب أن نتعامل معهم بنفس الطريقة، إذا كان هناك شيء يشكك فيه فهذا عمل يتولاه مختصون ويسمى بالفرنسية contreverse وهي الخلافات بين العلماء، لأنه خلاف في التقدير وفي المراجع والمصادر المستعملة.
وصلت عندي وثيقة نجد فيها أمرا غير موجود في وثائق أخرى، من حقي التساؤل، ثم استشير أصحاب الإختصاص وتناقش يعتمدها البعض ولا يعتمدها البعض الآخر، هذا أمر عادي جدا. لكن لا يوصل الناس إلى التطاحن. ولهذا أقول دائما، إن المواطن يحتاج إلى حد أدنى من المعرفة التاريخية لبناء رأيه، ولا يفرض رأيه على الآخرين، إذا كانت له كفاءة ليفرضه فليتفضل لكن يكون صاحب اختصاص.
تخوين هذه الرموز مثل الأمير عبد القادر وهواري بومدين أو غيرهم هو تحطيم لبلدنا بأيدينا ولن يثق فينا أحد ولا نثق في أنفسنا. أعتقد فيه تجاوز كبير جدا ولابد على المثقفين وأهل الرأي أن يتصدوا لهذا بكل قوة، وإقناع الناس بأن لا يثقوا في كل ما يقال لهم، خاصة في شبكات الأنترنيت.
لو تطلع على بعض المواقع قد تجد أن الجزائر اعتدت على استراليا في القرن العاشر قبل الميلاد، يمكن أن يكتبها شخص وتنتشر، الدليل والبراهين يناقشها أصحاب الإختصاص. لا أفهم كيف ننزل إلى هذه الدناءة بأن نطعن فيمن حرروا البلد، مهما كانت الأخطاء لا نقبل تخوينهم، لأن هؤلاء ليسوا ملائكة قد يخطئون، لكن ذلك الخطأ يجب أن يتناول بحذر ودون تضخيم.
في الثورة وقعت أخطاء، الإنسان أمام معركة ليس لديه الوقت لتحري الحقيقة. والعدو قائم وخبيث وعنيد وجيوشه جرارة، ارحموا أبناء هذا الوطن، هذا موضوع لا يمكن أن يمر هكذا، يجب أن يكون له رد فعل إيجابي من المجتمع لإسكات هذه الأصوات.
ركز رئيس الجمهورية في الكثير من خطاباته على الذاكرة، كيف يمكن أن نستلهم منها لاستكمال المشروع الوطني؟.
تناول رئيس الجمهورية هذا الموضوع بجد وبإخلاص وبإصرار، لأنه يعتقد، وهذا صحيح، أن البناء الوطني يبدأ من الأساس وهو تاريخ الجزائر كاملا، كيف سارت الجزائر مع كل العقبات والمشاكل والمآسي التي عاشتها وبقيت صامدة، لماذا؟ فليتنافس المتنافسون والباحثون، ابحثوا عن عناصر القوة التي سمحت للإنسان الجزائري، هذا الكادح الذي اخترق الزمن لقرون، يسقط ثم ينهض مجددا.
وبالتالي هذه العناصر يجب أن نعيد ضخها في الحياة اليومية كي يصبح الإنسان الجزائري له ثقة في نفسه، إذا لم تكن لديه ثقة في نفسه لا يمكنه فعل أي شيئ. هذا المشروع طويل النفس ليس سهلا، ما أفسدته الأيام لفترات عشرين سنة في حياة الأمم، لكن ننظر لأثرها في تشويه المسار والشخصيات وتعطيل المؤسسات.
هذا يحتاج إلى وعي والتزام واقتناع بأن المجتمع ينبغي أن يكون منظما بالقانون، إذا اقتنعت أن احترام القانون ضرورة ليس إلزاما، يجب أن أكون مستعدا لقبول القانون مثلما جاء لقناعة في نفسي بأن القانون ضروري، لابد من أطر تسير فيها الحياة الاجتماعية ويسير فيها الفرد.
والذاكرة الوطنية بكل مكوناتها تقويه في هذا الإتجاه، لذلك المشروع سارٍ بصعوبة، لأن ظروف الوباء وأمورا أخرى تجعلنا نخطو برزانة ولا نستعجل الأمور ولا نصدم الناس، اتركه يقتنع، وهذه تبدأ من الأسرة والمدرسة والتربية. وعلماء التربية يقولون إن تربية الولد تبدأ عشرين سنة قبل ولادته، أؤكد أنني وجدت تجاوبا كبيرا في الولايات، خاصة الإطارات حول هذا المشروع ونحن نسير بالتأني وبصورة رصينة.