الرماد وبقاياه المتطايرة بمجرد ما تتجاوز بلدية الأربعطاش ببومرداس، ينبئ أن الآتي ليس مشاهد من فيلم هوليوودي متقن التصوير والتاثيرات الخاصة، بل واقع يهز أكثر الناس جلدا، وأغلظهم قلبا، وأكثرهم انزواء في مجتمع يهُبُّ كالريح دفاعا عن حق الآخر في الحياة..
“يا خاوتي اصحابي استشهدوا”، “بابا مات وهو يكافح الحريق”، “بنتان التصقتا بوالدتهما فأصبحن جسدا متفحما واحدا” في حريق أكل الدار وما فيها في الأربعاء ناث إيراتن.. جمل تختصر أوجاعا سترافق كل من اهتم عن بُعد أو عن قُرب، بما حدث لمواطنين وجنود في تيزي وزو وبجاية وسطيف، وأماكن أخرى كانت المأساة فيها أخف، مقارنة بحجم الصور القادمة من “جحيم تيزي وزو”..
صور صادمة تتلقفها الهواتف النقالة، تقفز من صفحة فايسبوكية مشدوهة إلى صفحة تويترية ترتجف مما تحمله من صور صادمة، أو فيديوهات مرعبة، إلى صفحات أخرى لم تستفق بعدُ من هول الصدمة، التي تنتشر كالنار في الهشيم، وتترجمها عيون براءة لم تعي بعدُ ما يدور حولها، وخلفها نيران ضخمة مشتعلة، وأمامها مستقبل مجهول..
العيون المفجوعة..
الطريق إلى تيزي وزو هذه المرة، لا يشبه جغرافيا التصوير الآلي والفضولي لمن تعود على مشاهد الخضرة والأشجار التي تحف الطريق، وحتى “كانيطات البيرة” التي يراها من تعود قراءة مواضيع بعينها تتحدث عن “وكّالين رمضان” وهو يفرك لحيته الكثة، أو أنفه المتعود على “التقرعيج”.. هذه المرة الصورة مختلفة و”الدفاع عن حق الآخر في الحياة” يرتسم على الشفاه الناطقة بما يحدث خلف ولاية البويرة وبومرداس، وما تشي به عيون القادمين من تيزي وزو وولايات شرقية، وبعض السيارات والشاحنات تشُدُّك طردا إليها، بأصابع تشكل حرف النصر، وإشارات حمراء تتلألأ كنبض القلب، مُعلنة قدوم مساعدات بما تيسر لجزائريين لا يبخلون على جزائريين وقت الشدة، بكل ما يملكون، منذ علّمهم الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وعلمتهم 7 سنوات من الثورة كيف يستلُّون ذهبهم كله، ويقدمونه عربونا للتضامن الوطني، أسابيع بعد إستقلال البلاد..
مدخل تيزي وزو كئيب، يعلوه تحدي كبير، غير مكتوب على لوحة الترحيب، ولكنه مرسوم على جباه ترفض الاستسلام في حالة الخطر، وتتكثف على سواعدها عضلات “أحمي خوك”، التي تساندها عضلات شباب قدموا من خنشلة والبويرة وسطيف ومن الجزائر العاصمة وولايات أخرى، سواء مواطنون عاديون هبوا كرجل واحد لمكافحة حرائق ملعونة، أو أفراد الجيش الشعبي الوطني، وبعضهم لقى نحبه، وهو يختنق في الزفير مرة، ومرتين في الشهيق..
الشهيق في الزفير..
شرفات حزينة تُخبرُ كم هي متألمة لما يحصل في الجوار، هذا فقد قريبا في عين الحمام، وذاك ابن عم في آث واسيف، وثالث خالا في آث يني، ورابع أبا كان يدافع عن ابناءه لحظة هجوم اللهب على البيت العائلي، وخامس جزء من عائلة في الأربعاء ناث غيراتن، أم وابنتين، رفضا الموت بعيدا عن أمهما، فوجدهما الجيران “جسدا واحدا”..
أخبار الألم تهُزّ البيوت الحديث والآجورية، وحتى البيوت التقليدية، التي ترفع رأسها بشموخ، وترفض الإنقشاع عن صورة تيزي وزو، كما هي في المخيال الجمعي لمحبي “تادارت” والزوار ومن يعشقون رؤية “القديم لا تفرط فيه”..
مثلث استنشاق ثاني أوكسيد الكربون
أقبيل، عين الحمام، بني دوالة، إيجر، آيت تودرت، أبي يوسف، الأربعاء نايث إيراثن، واسيف، إعطافن، إيفيغا، إيلولة، واضية، آيت يني، هي قرى وبلديات، حفرت اسمائها في ذاكرة الجزائريين، بفعل حرائق هلك فيها من هلك، وشُرد فيها من شرد، وقطعت أرزاق من قطعت أرزاقهم، وبكى فيها من بكى عزيزا وصديقا وحتى جزائريا لا يعرفه بالإسم، خصوصا جنودا ماتوا دفاعا عن حق جزائريين آخرين في الحياة، والعيش، وتنفس أوكسجين طبيعي في زمن كورونا، التي فرضت علينا، شراء قوارير أوكسجين طبي حتى لا يموت جزائريون آخرون اختناقا ليس بلهيب النيران والدخان المشبع بثاني أوكسيد الكربون، ولكن بفيروس متحور، لم يعد يفرق بين شيخ وصبي، بين آنسة وحامل، بين فتى مقبل على الحياة، وكهل أثقلته الدنيا بهمومها..
حصائل ما فعلته الحراق في هذا المكان، ستأخذ وقتا قبل ان تتشكل صورتها النهائية بتفاصيل تسمح بقراءة ما حدث، قراءة صحيحة.
على خطى المورفين
صراخ في آث واسيف، ونحيب في إيلولة، وانهيار جدٍ بمجرد رؤية بعض أحفاده محروقين: جبهة يكادُ الجلد ينُطُّ منها، ووجه مصبوغ بلون الفحم، تعلُوه عينان صغيرتان، لطفل يتألم ولا يعرف أن ما حصل له، يسميه الأطباء حروق من الدرجة الثالثة، تتطلب جرعة مورفين قوية جدا، حتى لا يتوقف القلب، ووظائف حيوية في الجسم..
كهل إفتك حياته من براثن نيران لم ترحم من سقط بين ألسنها، يقطعُ الطريق، في واضية، غير مُدرك لما حصل، وقد يستفيق على أخبار أخرى مؤلمة، متى يسترجع “عقله” الغائب، لحظتها..
وهذا عون حماية مدنية منهك تماما، لكنه يتحدى انهيار قواه بمزيد من شد خرطوم المياه، والتصارع معه، حتى يسدد ميغالونات ماء في اتجاه حريق يقترب من تجمع سكني في الطريق الى بني دولة، التي تتوشّحُ بصبر خارق وهدوء جميل، قبالة الخطر القائم حولها، قد يكون سببه ما زرعه المرحوم معطوب الوناس، في أغنيته الشهيرة حول “زهير ذغذورارنغّ”، وهو تنبيه مما خبأته الجبال من مخاطر في تسعينيات القرن الماضي، وما جاء منها من مخاطر حرائق لا تبقي ولا تذر هذه الأيام..
“خاوة خاوة”..
هذا التعبير الشهير، الذي ردده الجزائريون في الحراك المبارك، طويلا، حتى ترسّخ في أذهان الصغير والكبير، يتشكل مرة أخرى في طابلوهات تضامن فريد من نوعه، في تيزي وزو وبجاية، وسطيف وخنشلة وعنابة والبلدية والبويرة وفي بومرداس التي انتقلت اليها السنة اللهب وهي تقاوم مخاوف سقوط أرواح فيها، بعدما تشبعت أجوائها ببقايا الحرائق من “الطْشَاشْ”..
لا أحد يسألك “من أين”، التي عادة ما يطرحها جزائريون على غرباء، وأنت تهم بتنزيل مساعدات، أو تكشط على ذراعيك، وتدخل معترك مكافحة النيران، بـ”بالة” أو حزمة أغصان خضراء، أو أي شيء آخر يصلح لإخماد النيران، التي زادتها تيارات هوائية خفيفة انتشارا في الجوار..
صور أفراد الجيش، في كتائب منتشرة هنا وهناك، تزيد المشهد العام التصاقا بمقولة “خاوة خاوة”، التي تجسدت في الحياة والموت، “خاوة خاوة” في مكافحة النيران، و”خاوة خاوة” في السقوط ضحايا من فرط الدفاع عن “حق الآخر في الحياة”، وهي صورة أخرى تضاف إلى سجل الجزائريين، في التضامن وقت الشدة، وتُقرب الأدراري من البجاوي، والوهراني من العنابي، والشاوي من المسيلي..
“ما تبكيش صاحبي”
“ما تبكيش صاحبي” تنتقل بسرعة البرق من شعاب تيزي وزو إلى العالم، وتستفز في من شاهد الفيديو، غددا مسؤولة عن الدمع في مؤخرة العين.. فتنهمر الإنسانية مع السائل الشفاف والمالح..
الهاتف يرن، زميل من وكالة الأنباء الجزائرية، يستفسر في أمر خاص، ويترحم على زميل خطفته كورونا منّا على حين غفلة، هو الذي دافع عن البسطاء، ولم يكن صاحب فيلا، ولا سيارة فخمة، ولا حتى صاحب وضع مهني مستقر، إنه الراحل رياض بوخدشة، رحمة الله عليه.
الزميل يبكي قريبا له سقط تحت سياط اللهب، في آث واسيف، التي تزاحمت فيها أخبار النعي، وأخبار اكتظاظ المؤسسات الصحية بالجرحى والمعطوبين والمختنقين من فرط استنشاق “المرعُوب”، أو الغازات المنبعثة من الخشب غير المتفحم كاملا..
نجوم عالميون في كرة القدم والغناء ودعاة، ورؤساء دول يعزون ويتضامنون، وأخبار عروض المساعدة تزداد مع كل خفقة قلب خائف خلف الجبال في مناطق عرفت معنى “حريق مهول” لأول مرة، بعدما كانت تسمع به أو تقرأ عنه وتتصوره “حريقا كبيرا”، بلا مقدمات، ولا تداعيات قاتلة..
الأمل مع كل شجرة زيتون صامدة
الأحراش التي تلاشت مع الحريق تترك خلفها صور، من الصعب نسيانها، متى التقطتها كاميرا المخ، وخزنتها بعد تحليل للمعلومات..
أشجار زيتون تتحدى الموت احتراقا، وسط محيط رمادي قاتم، أشجار بلوط واقفة، وكثير من الكاليتوس وأشجار مقاومة للعطش تقف استعدادا لاحتضان الأمل من جديد، وهي على يقين أن الطبيعة، التي تكره الفراغ، لن تخذلها، وأن رذاذ المطر الخفيف الذي نزل بردا وسلاما، عشية الثلاثاء، سيزيدها حُباً في الآتي المبتسم على إيقاع: نحن قادمون..
قوافل الإمداد والتضامن تصل تباعا إلى تيزي وزو منذ اليوم الثاني من حرائق مجرمة، كرّست عكس ما كانت ترجوه: تضامن أكبر، والتفاف أضخم حول البسطاء، الذين يعشقون الأمل حتى وهم يعيشون مع قلة الحيلة واليد القصيرة.. ولا ينسون فاتورة “الدفاع عن الحق في الحياة”، التي سجلها التاريخ بأسماء 65 راحل عن الدنيا، بين عسكري ومدني، تذكرهم عيون تتمنى أن لا تزيد الفاتورة البشرية، عما سجلته في اليوم الثالث من حرائق، سيتكلم عنها المواطنون ورجال الحماية المدنية وعناصر الجيش، والمثقفون، وسياسيون، تتقاطر بياناتهم حزنا على من غادروا الدنيا، بـ”تضحية” مكثفة، في الشكل والمحتوى: تضحية من أجل الآخر..