من جبال الأوراس الأشم الى جبال جرجرة مرورا بالزكّار وصولا الى جبال ترارة، شكلت تلك الأعمدة الصخرية الدرع الواقي لمجاهدي ومسبلي ثورة التحرير المجيدة، فكانت الجندي الخفي المكلف بالتمويه، فلا طائرات العدو ولا مظليوها استطاعوا اختراقها ولا كسر طبيعتها الوعرة، فكأني بتلك الجبال قد عاهدت من حملوا أمانة الوطن على أعناقهم ألا تترك للمحتل سبيلا ليصل إليهم.
هذه السلاسل الجبلية بغاباتها وأحراشها تشتعل نارا مستعرة أتت ألسنتها على الأخضر واليابس، وكأنها تتتبع أثر المجاهدين والشهداء لتحرق متحفا طبيعيا يجسد ساحة الوغى والشرف رُفعت فيه تكبيرات النصر وتكبيرات رثاء شهداء سقطوا من اجل ان يحيا الوطن، وهناك قذفوا بالنار لتشعل قلوبنا وتحرقها وتحرم أجيالا كاملة من ذاكرة إيكولوجية للأرض في صورة تنتقل فيها نار الغل والحقد من نفوس من خسروا «جنة» الجزائر الى أشجارها الباسقة وغاباتها، لأنها من أعطت المجاهدين الأفضلية في ساحة المعركة.
ما أشبه اليوم بالأمس، عندما كانت النار ميزة سياسة المستعمر في الجزائر، فكان حرق الجزائريين بالآلاف أهم أسلحة المحتلين في حروب إبادة لم ترحم طفلا صغيرا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا، فالأهم بالنسبة «للوافد الجديد»، «تنقية» الجنة من ساكنيها الأصليين حتى يصبح «صك الملكية» حقهم الشرعي، لكن هيهات ان يضيع حق وراءه مطالب، فطوال ما يزيد عن القرن عجزت السلطات الاستعمارية الفرنسية إكراه الجزائريين المتشبثين بالأرض على قطع «الحبل السري» الذي يربطهم بوطنهم.
يبدو ان مُخَطط الحرائق تلميذ فاشل عجز عن استيعاب الدروس التي قدمتها الجزائر منذ ملايين السنين، لان النار المشتعلة أكلت من الأشجار والغابات والقرى ما يجعلها «نار هاربة من جهنم»، لكنها في المقابل ستكون جزءا مهما من ذاكرة الجزائريين في هذه المرحلة من مشروع بناء أمة، لأن الضربات الشعواء تعبير صادق عن التخبط والعجز لاستعادة «الجنة المفقودة»، والضعف في مواجهة الحقيقة في ألا أحد له الحق في هذه الأرض سوانا، وكما محا السد الأخضر آثار قنابل «النابالم»، ستمحو سواعد الجميع آثار مؤامرة النار.
© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.