في معركة الدولة “الأممية من دينية او اشتراكية” او الويستفالية ” من قومية او فاشية” او الدولية الهجين” من كينزية او دولة الرفاه العام (Welfare state) هناك تراجع لدور الدولة أحيانا بشكل منظم وأحيانا أخرى بشكل فوضوي.
للدولة وظائف أربع: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وأمنية، ويبدو لي أن العولمة في اتجاهها العام تحاصر هذه الوظائف بإيقاع متباين، ولكني سأتوقف في هذه العجالة عند نقطة دون غيرها، وهي التغلب التدريجي والمتواصل للقطاع الخاص على حساب القطاع العام في الاقتصاد العالمي وفي الاقتصاد القومي وما تبقى من شظايا الاقتصاد الاشتراكي، وهو امتداد للتراجع في المجال السياسي والآيديولوجي للدولة، بل إن تنامي اليمين الفاشي وثورة الأقليات والثقافات الفرعية ليست الا في جوهرها – لا تفاصيلها – ردة فعل لكابوس العولمة، وهذه جدلية نتركها لمقال لاحق.
من مراجعة عشرات التقارير الدولية (من دول ومنظمات دولية او جامعات او مراكز أبحاث) فان نصيب القطاع الخاص عام 2020 من إجمالي الناتج المحلي العالمي هو ما بين 57-60%، لكن الملفت للنظر ان تسارع زحف القطاع الخاص على حساب القطاع العام أعلى منه في الدول الاشتراكية المتبقية في العالم منه في الدول غير الاشتراكية.
في الصين وهي الاقتصاد الاشتراكي الاكبر والاقتصاد (الاول طبقا لإجمالي الناتج المحلي PPP، والثاني على أساس Nominal))، تدل مؤشراتها على ان القطاع الخاص زاد من نصيبه في الصادرات الصينية من 34% عام 1995 الى 88% حاليا، وزاد نصيبه في الاستثمارات من 42% الى 65% في نفس الفترة، وارتفع نصيب القطاع الخاص في نسبة تشغيل العمالة من 18% الى 87% حاليا.
فإذا ذهبنا لفيتنام، نجد ان حوالي 43% من اجمالي الناتج المحلي الفيتنامي هو 43%، كما ان 50% من اليد العاملة الفيتنامية تعمل في المشروعات المتوسطة والصغرى التابعة للقطاع الخاص.
ولحقت كوبا بالاتجاه ذاته منذ 2010، فعلى الرغم من ان 14% فقط من اليد العاملة الكوبية تعمل في القطاع الخاص، لكن الاجراءات الاخيرة رفعت هذه النسبة خلال ايام الى 19%، لكن الملفت طبقا للبيانات الرسمية الكوبية انه بعد أكثر من عقد من الموافقة على خصخصة 127 فئة، وافق مجلس الوزراء على إلغاء تلك القائمة لصالح تحرير جميع المهن، ما عدا 124 من بين أكثر من 2000 مهنة معترف بها في التصنيف الوطني للنشاط الاقتصادي (أي حوالي 16 ضعفا).
ولعل تصويت الشعب في استفتاء عام 2019 على توسيع نطاق مساحة الحركة للقطاع الخاص يكشف ما يمور في باطن المجتمع.
وفي لاوس التي شرعت في فتح الباب امام الخصخصة عام 1986، وطبقا لدراسات البنك الآسيوي فان “معدل” نصيب القطاع الخاص في النمو الاقتصادي ارتفع خلال العشر سنوات الماضية بمعدل 66%.
وما يعزز ما سبق من مؤشرات هو التزايد الواضح في عدد الشركات الاجنبية العاملة في الاقتصاد الاشتراكي، ففي الصين مثلا ارتفع عدد الشركات الاجنبية من الدول الرأسمالية العاملة في الصين من 100 شركة عام 1979 الى 300 الف تصل مجموع استثماراتها الى 142 مليار دولار.
وفي عام 2019 وصل عدد المشروعات القائمة على استثمارات اجنبية في الصين حوالي 180 الف مشروع.، وبلغ مجموع حجم الاستثمارات الامريكية في الصين والاستثمارات الصينية في امريكا قبل مرحلة ترامب الى حوالي 65 مليار دولار، وفي فيتنام بلغ الاستثمار الأجنبي عام 2020 حوالي 18 مليار دولار معظمه استثمارات من اقتصاديات رأسماليه..
هذا التداخل سيتواصل على الارجح، وسيترك المزيد من الآثار السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، فلو قارنا حجم مؤشرات العولمة في الصين والولايات المتحدة بين 2000 و 2020 سنجد ان إيقاع العولمة في الصين يصل الى حوالي 3 أضعاف ايقاعها في الولايات المتحدة (رغم تقدم الولايات المتحدة في مجموع نقاط العولمة على الصين بحوالي 18 نقطة)، وهو ما يفسر تكرار الرئيس الصيني في مناسبات عديدة ان بلاده تقود العولمة؟..
ولو اخذنا مجموع مؤشرات العولمة للصين وفيتنام وكوبا نجدها 64 -65- 62 على التوالي، وهو ما يجعلها في منتصف الطريق في العولمة، بينما لاوس 45 أي انها الاقل (وذلك لأسباب داخلية لا مجال هنا لتفصيلها).
ويجب الفصل بين المنظومة الاخلاقية النظرية للاشتراكية (العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني والمساواة بين الدول) وبين انجاز ذلك على ارض الواقع، فالهوة – للأسف الشديد- بين الجانبين كبيرة، لكن السلفية الماركسية لا تزال تصر على ان “كوندراتيف يستحق الاعدام”… للأسف.