في الجنوب الغربي من الجزائر قد تفرح بلا مقدمات، في الطبيعة العامرة بالمفاجآت، وتحزن في رمشة عين وأنت في الحمادة تتبع آثار من لا يخافون القانون، أو يعشقون سالفي مع غزال مقتول..
لم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين من متابعي الحياة البرية، أن يساهم الحجر المنزلي بولايات الجنوب الغربي في نتائج عكسية تعصف بنظرية الراحة البيولوجية للطبيعة.
الحجر المنزلي المفروض في ولاية تندوف في أوقات سابقة من السنة الماضية، ساهم في انخفاض أعداد الحيوانات البرية، وتأثر الغطاء النباتي الذي كان يغطي الأودية المحيطة بالمدينة، قد لا تصدقون ما يبدو استنتاجا، بداية هذا الريبورتاج، الذي سينقلكم على عوالم ساحرة، ويُسقطكم في لحظة تأمل من قبيل: فاصل ونعود!
كيف حصل ذلك؟ تدابير الحجر المنزلي والإجراءات الوقائية المتبعة، في هذه الولاية التي تتحول فيها السنة الشمس الى سياط تلهب جلود البشر، صيفا، فرضت على شباب وعائلات الخروج من البيوت، ذات الحرارة العالية في هذا الفصل، نحو الصحراء الفسيحة، طلبا لـ”تغيير الجو”، وهروبا من ضغط الحجر المنزلي، الذي يحولك الى “قولون عصبي” منرفز، لمجرد انك لم تتحرك خارجا بما يُسقط عنك ضغط داخلي متراكم..
في الصحراء الفسيحة، قرب الحمادة، التي تمتد الى جنوب أدرار في العرق الغربي، لا وجود لتعابير من قبيل “التباعد الجسدي” و”الكمامات”، من نافلة القول، الحديث عن “تدابير احترازية” وأنت تخاطب من يهرب من “ضغط البقاء في البيت” بمطالبته بالعودة إليه!
في هذه الفلات تكون يد الإنسان والجفاف الذي يخيم على المنطقة منذ سنوات، قد تركا أثرا بالغا على التنوع البيولوجي بالولاية.
يدق المختصون والمهتمون بالحياة البرية في تيندوف ناقوس الخطر، محذرين من إمكانية زوال أصناف نباتية وحيوانية من الوجود، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه خاصة، خصوصا إذا أعيد فرض الحجر المنزلي بولاية تندوف.
النظام البيئي بولاية تندوف نظامٌ هش، على اعتبار أن الولاية منطقة صحراوية عانت سنوات من فترات جفاف قاسية وطويلة، تضررت منها الثديات بشدة وأثرت على تكاثرها الطبيعي.
وما زاد الطين بلة، تنافس غير طبيعي بين البشر للظفر بشيء منها، خارج أسوار المدينة، وبعيدا عن الرقيب الأخلاقي، ناهيك عن مزاحمتهم للحيوانات في مصادر غذائها..
اختفاء أنواع حيوانية
يؤدى الصيد العشوائي غير المدروس الى اختفاء العديد من الأصناف الحيوانية من حمادة تندوف.
النعام الذي استوطن المنطقة بأعداد هائلة، من قبل، لم يعد له اليوم وجود.
الغزلان التي كانت والى غاية سنة 2015 تتجول بحرية في واد القنطار (50 كلم عن تيندوف) ومناطق أخرى قريبة من المدينة ضمن قطعان تضم 30 رأساً، اختفت من مناطقها الأصلية وفرّت باتجاه الشريط الحدودي، على اعتبار انه مناطق وعرة يستحيل الوصول إليها، وتقلصت أعدادها، بشكل لافت، وأصبحت تتجول بأعداد قليلة برأسين أو ثلاثة فقط.
الباحثون عن الحياة..
جمعية حماية الحياة البرية تنشط بولاية تندوف منذ سنوات، عملت منذ إنشائها على توثيق الحياة البرية وحماية الأصناف من الصيد الجائر، والبحث عن حلول وآليات لحماية الحيوانات المهددة بالانقراض.
ترصد الجمعية وتتبع الطيور المهاجرة وتحصيها وتحدد مسارات هجرتها، بشبكة تضم مجموعة من الأكاديميين وموثقي الحياة البرية المنتشرين عبر التراب الوطني، أمثال كمال تركي من ولاية بشار، وزكرياء الإبراهيمي من المشرية ولاية النعامة.
تعمل هذه الشبكة من حماة البيئة والبراري على توثيق الحياة البرية، وتصنيفها وتسجيل حركة الطيور المهاجرة.
نجح كمال تركي في توثيق زوج من ثعلب الماء، وهو حويان نادر في سد جرف التربة بولاية بشار، قبل أن يُعثر عليه مقتولا من طرف بعض الصيادين.
ونجح زكرياء الإبراهيمي في كسب ثقة الذئب الذهبي بولاية النعامة، فوثّق العديد من الحيوانات البرية المهددة بالانقراض بالمشرية، بصور جميلة، وملاحظات علمية.
“مدمرو الجوار”..
يقول فيصل صديقي، رئيس جمعية حماية الحياة البرية بتندوف، إن زيادة أعداد العائلات التي تتوجه للحمادة للترويح عن النفس يؤثّر بشكل كبير على الغطاء النباتي والحياة البرية بالولاية، ويتسبب الأطفال في القضاء على بيوض الأعشاش، خاصة بيوض الحجل.
ويضيف المتحدث: المحافظة على التنوع البيولوجي بولاية تندوف لا يمكن أن تتم إلا من خلال محاربة الصيد وتوعية البدو الرحل وقاطني المدن بأن هذه الحيوانات مكسب وطني ينبغي المحافظة عليه للأجيال القادمة.
ولا ينسى رئيس جمعية حماية الحياة البرية الإشادة بمجهودات موثقي الحياة البرية في ولايتي بشار والنعامة، وهو عمل مكّن من رصد ومتابعة حركة العديد من الأصناف الحيوانية المنتشرة في الجنوب الغربي للبلاد، ونشر الوعي بين مواطني هذه الولايات من أجل المحافظة عليها.
مقترحات قابلة للتنفيذ
ويدعو رئيس الجمعية الى ضرورة إنشاء محميات طبيعية بولاية تندوف وتسييجها ومراقبتها بأعوان محافظة الغابات، والعمل على إعادة توطين كائنات حية في هذه المحميات.
ويقترح المتحدث تصنيف بحيرة تفقومت منطقة رطبة، حسب اتفاقية رامسار وتحويلها، إضافة الى طويرف بوعام والقطارات الى محميات طبيعية مُسيّجة يمنع دخولها، ما سيساهم في منح الحياة البرية راحة بيولوجية طويلة الامد لاستعادة عافيتها بعد عقود من التخريب والاستنزاف.
“مسؤولون عن ما تبقى”
ويعرب فيصل صديقي عن أسفه لحالة الحياة البرية، اليوم، من تخريب ودمار مسّ معظم الأصناف الحيوانية والنباتية في الجزائر.
ومما يقوله مصدرنا أن محافظات غابات في بعض الولايات “تسبح عكس التيار”، وتمنح تراخيصاً لصيد أنواع من الطيور ببلادنا مصنفة في خانة الخط الأحمر ومهددة بالانقراض، دون إدراك لعواقب هذه الخطوة التي ستكون كارثية لا محالة على التنوع البيولوجي في الجزائر.
يقول المتحدث إن كل الهيئات التي تُعنى بالبيئة وفعاليات المجتمع المدني مُلزمة اليوم بتكثيف حملات التوعية والتحسيس للمحافظة على الحياة البرية.
ويضيف: الجميع مسؤول على ما تبقى من تنوع بيولوجي بالجزائر، كل حسب موقعه واختصاصه.
وينوه المتحدث بالعمل الجبار الذي تم، بالتنسيق مع العديد من الهيئات، وأسفر عن تزايد أعداد طيور القطا المرقط بشكل كبير، في الوقت الذي اختفى فيه من العديد منه في ولايات أخرى.
مناطق عذراء
لا تزال العديد من المناطق في الجزائر عذراء، لم تكتشف بعد، ولم تكشف كنوزها البرية للباحثين والهواة، بالرغم من سنوات التوثيق العلمي والخرجات الميدانية لموثقي الحياة البرية، لكن بين الحين والآخر يتم الاعلان عن اكتشاف حيوان جديد يُضاف الى قائمة الحيوانات البرية في الجزائر.
بعد زوج ثعلب الماء بسد جرف التربة بولاية بشار وحيوان غرير العسل في حمادة تندوف، كشف موثقا الحياة البرية كمال تركي وفيصل صديقي، هوية طائر جديد يستوطن الجزائر لم يكن معروفاً من قبل.
خلال خرجة استكشافية روتينية، تمكن الموثقان من تصوير طائر “ذعرة بيضاء” لأول مرة بالجزائر، ومكنتهم هذه الخرجة من تأكيد وجود هذا الطائر بالجزائر، وهو في مرحلة التعشيش، وهو اكتشاف علمي كبير، يُحسب لمجموعة موثقي الحياة البرية.
ويضاف لهذا توثيق وجود الأفعى الأوربية العمياء وهو نوع من الأفاعي غير السامة لا يتعدى طولها 30 سم.
للمتعة والتباهي فقط
فصل الصيف بتندوف من الأوقات المفضلة للصيادين غير الشرعيين. في هذا الفصل من السنة، تتقلص حركة الحيوانات البرية الى أقصى درجة بفعل الحرارة وانحصار مواطن غذائها، فتصبح مساراتها محددة، وأماكن تواجدها معروفة مسبقاً للصيادين.
يروي الشاب “محمود.ع”، موظف، تجربته مع صيد الغزلان بحمادة أم العسل، وكيف اختطفته هذه الهواية التي يمارسها منذ سنوات، رفقة مجموعة من أصدقائه، الى درجة الهَوَس بصيد كل ما يتحرك في البرية.
يقول الشاب إن صيد الحيوانات البرية يساهم في تحسين مزاجه ويخفف عنه ضغوط العمل وصخب المدينة.
يقول محمود إن حصيلة رحلة الصيد الواحدة قد تصل 10 رؤوس من الغزلان، دون احتساب الأرانب البرية والثعالب التي قد يصادفونها في الطريق.
ويضيف أن رحلات الصيد يتم توثيقها بالصور، وقد تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي من باب التباهي والافتخار ودلالة، على رغد العيش بالنسبة للصيادين.
ويوضح المتحدث أن رحلات الصيد باتت أصعب من ذي قبل وأعداد قطعان الغزال في تناقص مستمر.
رحلات الصيد التي كانت تتم في السابق بسيارات لاند روفر وعن طريق أشخاص معروفين في المجتمع، أصبحت اليوم نشاطاً يستهوي أصحاب الدراجات النارية وسيارات الدفع الرباعي الحديثة والقوية ضمن مجموعات، تصطاد قطيعا بكامله من الغزلان ووعل الجبل.. في إبادة واضحة للحياة البرية.
يقول محمود إن الحيوانات البرية حذرة للغاية عند رؤية البشر، غير أن سنوات الخبرة الطويلة في الصيد التقليدي أكسبت الصيادين مقدرة على تتبع تحركات هذه الحيوانات والتنبؤ بمساراتها المستقبلية، وبالتالي يتم تقليص دائرة البحث ونصب الفخاخ تحضيراً لاصطيادها.
ويزيد محمود على ما قاله الآتي: صيد الغزال ووعل الجبل وغيرها من الحيوانات البرية ليس من باب الحاجة للبروتين ولا للعلاج، بل يتم صيد هذه الحيوانات من باب المتعة والمغامرة وتوثيق هذه الرحلات بالصوت والصورة للتباهي، خاصة وأن مناطق تواجد هذه الحيوانات يصعب الوصول إليها لصعوبة تضاريسها وبعدها بمئات الكيلومترات عن أقرب تجمع سكني.
الصيد الجائر
الصيد الجائر، التغيرات المناخية، وسنوات الجفاف الحاد وغيرها من العوامل، أدت الى انقراض مجموعة من الحيوانات البرية وهروب أخرى من إقليم الولاية، وساهمت بشكل كبير في تصنيف حيوانات أخرى ضمن قائمة “الحيوانات المهددة بالانقراض” رغم ترسانة القوانين التي تحميها وتحظر صيدها.
وتبقى مجهودات موثقي الحياة البرية منصبّة فقط على إحصاء، تسجيل ومتابعة تحركات الحيوانات البرية والطيور المهاجرة، في غياب قوة الردع واستراتيجية ناجعة للتقليل من الآثار السلبية للصيد الجائر، رغم الدعوات المتكررة من طرف موثقي الحياة البرية لاستحداث محميات برية وتسييجها وإيجاد آليات لمعاقبة الصيادين غير الشرعيين.
بين صائد جشع وموثق حريص، تواصل الحياة البرية بالجنوب الغربي طريقها نحو التدهور وخسارة المزيد من كنوزها، في غفلة من الإدارة، ما يستدعي تدخلا عاجلا للفاعلين في البيئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..