من المتعذر على الباحث في التاريخ السياسي أن يعثر على تنظيم سياسي نشأ واستمر دون خلافات داخلية او انشقاقات وتشظٍ.
وقد أشارت بعض الدراسات المتخصصة في دراسة التنظيمات بخاصة السرية منها، إلى أن أسباب الانشقاق قد تكون فردية (بخاصة بين قيادات التنظيم) او موضوعية (التباين في فهم تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري)، او نتيجة تدخل خارجي في بنية التنظيم او ما تسميه هذه الدراسات “التغلغل” (entryism) بهدف التأثير على التنظيم لتوجيهه نحو اهداف تخدم المتغلغل، ومثال ذلك هو ما فعلته تنظيمات يسارية تروتسكية في بعض الدول الأوروبية بخاصة.
ولو نظرنا في بعض التنظيمات السياسية العربية المعاصرة سنجد ذلك واضحا للعيان،.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انشقت الى 3 تنظيمات، وحركة فتح اصبحت اكثر من فتح واحدة، وحزب البعث والإخوان المسلمين في كل بلد عربي عرفوا ظاهرة الانشقاق وربما التغلغل..
وفي أمريكا اللاتينية عرفت كل التنظيمات اليسارية والدينية المسيحية الانشقاق، وفي اسرائيل تشظى الكثير من أحزابها بل تكاد ان تكون ظاهرة التشظي هي الابرز في بنية التنظيمات السياسية الاسرائيلية.
وتختلف التنظيمات في طبيعة الانشقاق، فبعضها يأخذ طابعا سلميا هو اقرب للانسحاب الهادئ من التنظيم، بينما قد يأخذ الانشقاق طابع الصراع بمستويات عنف مختلفة، وقد يكون الانشقاق فرديا (Dissident).
ما سبق يغزز أهمية النظر الى الانشقاقات والصراعات والانسحابات الفردية داخل التنظيمات الاسلامية على أنها ظاهرة سياسية مألوفة لا نتفرد بها هذه التنظيمات.
بناء على ما سبق، نجد أن الكتابات الاكاديمية في العالم العربي حول ظاهرة انشقاقات الحركات الاسلامية وسياساتها تتمحور حول ثلاث نظريات:
أ- اعتبار الحركات الاسلامية “صنيعة” لقوى دولية (غالبا الولايات المتحدة وبريطانيا)، وأنها جزء من استراتيجيات هذه القوى في صراعاتها الدولية، واغلب هذه الدراسات تتغذى على ثقافة يسارية ماركسية او قومية، وهو ما يجعل هذه الدراسات لا ترى في الاخوان المسلمين او داعش او طالبان او بوكوحرام او الجبهات السلفية او حماس والجهاد الاسلامي او غيرها الا من هذا المنظور.
ب- اعتبار الحركات الاسلامية افرازا لثقافة مجتمعية تمتد جذورها لحوالي 15 قرنا، وأنها تعبير عن نزعة حنين لتاريخ تليد (nostalgia)، وان عبء كل مقاومات الاستعمار الخارجي حملته حركات دينية بدءا من الحروب الصليبية الى الوقت المعاصر (العلماء المسلمون في الجزائر، عمر المختار في ليبيا، المهدية في السودان، الاخوان المسلمون في مصر، القسام في فلسطين، حزب الله في لبنان، وهي نفس الظاهرة في العالم الاسلامي خارج العالم العربي.
ت- النظرية العامة التي ترى ان الحركات الاسلامية شأنها شأن غيرها، وهي مزيج من الحركات المصنوعة او الأصيلة وهي تنظيمات مخترقة كليا او جزئيا او تستعصي على الاختراق الفاعل.
وتزداد المشكلة تعقيدا عندما يكون التنظيم الاسلامي غابرا للحدود والقوميات، وهي نفس الظاهرة التي عرفتها الاحزاب الشيوعية بل والأحزاب “الديمقراطية”.
فالخلاف بين شيوعية ماو والاتحاد الوسفييتي وصل الى حد الاشتباك المسلح، وشيوعية فيتنام وشيوعية الصين وصلت الى حد الحرب، ولم يقتنع جيفارا بما انجزه مع كاسترو وتفارقا، وتيتو اختلف مع الاتحاد السوفييتي، وانشق عن الحزب الشيوعي السوفييتي قيادات ومفكرون وأفراد عاديون، وتشظت الرأسمالية الى رأسماليات كينزية ومتوحشة ورأسمالية الرفاه…
ان الظروف المحلية والإقليمية تتباين تماما، وتنعكس على بنية التنظيمات السياسية مما يفرز تباينا في الاستراتيجيات والتكتيكات لكل منها، فالإسلام الماليزي والتركي والسعودي والنيجيري والسنغالي والفلسطيني والباكستاني والأفغاني والأردني والتونسي وإسلام الاقليات في المجتمعات الغربية يتباين في تكييفه للمنظور العقائدي مع البيئة، ويتباين التكييف نظرا لتباين البيئة من ناحية ولمستويات العقل الفردي (النخبة الفكرية الدينية) والجمعي (مستوى الثقافة السائدة).
فإذا تمت تغذية هذه التباينات بالتغلغل (Entryism) الخارجي، ازداد المشهد تعقيدا وصعوبة على الفهم والتصنيف، فهناك افراد داعشيون بالمطلق، وهناك داعشيون نسبيا، ونمط ثالث من الداعشيين يقفون على “الحدود الداعشية”، لكن النظر الى التنظيمات الاسلامية من منظور نظرية واحدة من النظريات الثلاث، التي أشرنا لها قد يكون فيه خلل منهجي.
العقائد كالماء، فهو يأحذ شكل الوعاء الذي تضعه فيه، فان كان كأسا او دورقا او حوضا او ابريقا تكيف مظهره دون ان يفقد خصائصه الطبيعية، والتنظيمات كالماء تتشكل طبقا لوعائها الاجتماعي دون أن تتخلى عن منطلقاتها الاساسية، لكنها بالتأكيد ستتباين في أولوياتها، لكنها ستتصارع تارة وتتعاون تارة اخرى وتتهادن تارة ثالثة.
وتدل دراسة متخصصة على ان تماسك أي تنظيم مرتبط بثلاثة متغيرات هي: ديمقراطية اتخاذ القرار داخل التنظيم، درجة الاستقلال المالي (وهو أمر في غاية الخطورة)، ثم القدرة على الانجاز وتقديم بدائل مقنعة للجمهور، ويتفرع عن هذه الاسباب المركزية عشرات المؤشرات الفرعية (تماسك التنظيم وعدم القدرة على اختراقه، عدم تصادمه مع بيئته العامة والخاصة، وجود سند دولي او إقليمي،…الخ من المؤشرات الفرعية التي تغذي الانشقاق.
ذلك يعني ان الظن في “توجهات” التنظيمات الاسلامية يجب ان يقوم على الدليل العلمي المقنع، وحينها يكون الظن من النوع غير الآثم، وعلى التنظيمات الاسلامية أن تدرك أن بعض تصرفاتها تُشرع الباب للظن كُلُّه.