رسخ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بتصريحاته الأخيرة ضد الجزائر، الأزمة العميقة التي تعيشها بلاده. وأكد أن فوزه بعهدة رئاسية ثانية بهذه الطريقة التي يجري التحضير لها، يعني أن مستقبلا “حالكا” ينتظر فرنسا، حيث ستكون مضطرة حينها للبحث عن مصالحة متأخرة مع ذاتها، قبل السعي لمصالحة مع الغير.
أكد رئيس فرنسا، مرة أخرى، أنه غير قادر على أن يكون استثناء من بين سابقيه في النظر لملف الذاكرة مع الجزائر، حيث اعترف ضمنيا أنه ليس بمقدوره الخروج عن العقيدة الفرنسية المتغذية من تمجيد الاستعمار، والقائمة على “النكران” ولا شيء غيره.
ونقلت صحيفة “لوموند”، في عددها أمس، ما دار بين الرئيس ماكرون، وبين أولاد وأحفاد الحركى وجنرالات منظمة الجيش السري الإرهابية بقصر الاليزيه، في 30 سبتمبر المنقضي، من كلام ظاهره “تاريخ وذاكرة”، وباطنه “غضب هستيري وفشل” و”خوف من المستقبل”.
جهر بما كانت تمارسه بلاده في الخفاء ضد الجزائر
ومما قاله الرئيس الشاب الذي يتهيأ لعهدة ثانية، بطريقة مناقضة تماما لما فعله في العهدة الأولى، أن “التاريخ المدون في الجزائر عن الحقبة الاستعمارية 1830-1962، رسمي ومضلل ودعاية ضد فرنسا”.
ويرى أن “المشكلة ليست بين بلاده والمجتمع الجزائري، وإنما مع الدولة الجزائرية القائمة على تغذية مشاعر الضغينة ضد فرنسا”، ليدعو إلى تبني مقاربة فرنسية هجومية، لكتابة تاريخ الفترة الاستعمارية “باللغتين العربية والأمازيغية”.
ولعل أخطر ما تلفظ به الرئيس الفرنسي، الغارق في مشكلات لا تنتهي، والذي يحاول تزييف المشاعر الحقيقية للمجتمع الجزائري ضد بلاده، هو تساؤله “عما إذا كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”، مضيفا بأنه يعتقد الدولة الجزائرية “مرهقة” وأن “الحراك الشعبي أضعفها”.
واسترسل ماكرون، في قول ما لم يضطر سابقوه لقوله، عندما أكد أن تقليص منح التأشيرات لدول المغرب العربي، إجراء “لا يقصد به الطلبة ورجال الأعمال” وإنما “صناع القرار الذين تعودوا الحصول على التأشيرة بسهولة”.
وقال: “إنها (التأشيرات) وسيلة ضغط.. سنقوم بإزعاج القادة، ونقول لهم لن نسهل عليكم حياتكم إذا لم تتعاونوا معنا”.
السياق والمغزى
قبل التعمق في قراءة رسائل ماكرون، من المهم التمعن في السياق الذي جاءت فيه. فالرئيس الفرنسي تبنى وبشكل رسمي، ما كانت تلجأ بلاده لتمريره عبر وسائل إعلامها وعلى رأسها صحيفة “لوموند”، وعبر اليمين واليمين المتطرف، وأيضا عبر بيادق في الداخل الجزائري استخدمت طويلا للتشكيك والتقزيم تجاه تاريخ الجزائر.
تصريحات ماكرون، هي اجترار ما سبقه إليه السفير الفرنسي الأسبق لدى الجزائر ومدير المخابرات الخارجية الفرنسية، برنار باجولي، في حوار مع صحيفة “لوفيغارو” سنة 2018، قال فيه: “إن العلاقات بين البلدين لن تتقدم بسبب النخبة الحاكمة في الجزائر سواء كانت من جيل الثورة أو الأخرى المتشبعة بقيم الثورة المعادية لفرنسا”.
صحفية “لوموند” نفسها، هاجمت الجزائر في افتتاحية لها بتاريخ 04 أفريل الماضي، وعبرت عن ضغينتها تجاه الجيش الجزائري، لكثرة استشهاده واستذكاره لتضحيات “مليون ونصف مليون شهيد” معتبرة أنها تغذية لمشاعر الحقد تجاه فرنسا.
ولطالما تغنى اليمين الفرنسي المتطرف، برواية وجودية الدولة الجزائرية قبل 1830، واعتبر أنها “كانت تمارس القرصنة البحرية في المتوسط” لتبرير احتلالها.
الجديد الذي جاء به ماكرون، إذا، هو تأكيده على توظيف “ملف التأشيرات” في الابتزاز السياسي، مناقضا بذلك تصريحات إحدى وزيرات حكومته التي قالت إن الأمر لا يتعلق “بابتزاز”.
والمحصلة، أن تصريحات الرئيس الفرنسي، تمثل تأكيدا رسميا وعلنيا، لما ظلت تقوله وتمارسه فرنسا في الخفاء ضد الجزائر، ولعدة عقود.
تصريح هستيري
يفهم من خرجة الرئيس الفرنسي، أنه نزل بنفسه إلى المعركة، بعدما رأى بأم عينيه، عجز أجهزة وأدوات الدولة الفرنسية الواحدة تلو الأخرى في لي ذراع الجزائر، والنجاح في أي ملف من الملفات الاستراتيجية، ومن الواضح أن الرئيس ماكرون يعيش حالة من الغضب العارم ممزوجة بالإحباط الشديد.
كيف لا، وهو يوثق يوميا، تراجع الحضور الفرنسي بشكل مخيف على الساحة الدولية. لقد تلقى ضربات شديدة القسوة، من أمريكا وأستراليا وبريطانيا (أقوى حلفاء بلاده) في صفقة الغواصات حيث تبخرت أزيد من 60 مليار دولار بلمح البصر، وفوق ذلك شعوره بعدم الاحترام.
فرنسا العضو الدائم في مجلس الدائم، لم تستطع لحد الآن إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا، عكس باقي الدول الأعضاء والجزائر التي شرعت في إنتاجه محليا. زيادة لهذا كله ارتفاع ومشاعر الرفض ضد الوجود الفرنسي في منطقة النفوذ التقليدي كإفريقيا الوسطى ودول الساحل، وباتت مكانتها مهددة أمام شركاء دوليين آخرين.
ومن الواضح أن ماكرون، لم يهضم فقدان بلاده لريادتها الاقتصادية في الجزائر، ففي ظرف سنة ونصف غادرت شركتان فرنسيتان كانتا تسطيران على قطاعين استراتيجيين، وهما مجمع “سويز” (عدم تجديد عقده مع سيال)، والشركة المكلفة بتسيير ميترو الجزائر، وتراجع حضور شركات أخرى بشكل كبير في السوق الجزائرية.
وأوقفت الحكومة الجزائرية، الاعتماد على مكاتب الدراسات الأجنبية ومن بينها الفرنسية موفرة للخزينة مبالغ ناهزت 7 مليار دولار، كما فتحت الباب لتنويع الموردين لشحنات الحبوب من دول أخرى، وتضع تحقيق الاستقلال الاقتصادي بمناسبة الذكرى الـ 60 للاستقلال هدفا استراتيجيا.
فوبيا الآخر والمستقبل المخيف
خرجة الرئيس الفرنسي، كانت متوقعة، وماهي إلا تتويج لتصعيد بدأ منذ رئاسيات 12 ديسمبر 2019، حيث أكد ماكرون، ما كان يصرح به وزير خارجيته جون إيف لودريان بشأن “الانتقال الديمقراطي المزعوم”.
وبحديثه عن انهاك “الحراك للدولة الجزائرية”، رسم انخراط بلاده، في محاولة تغيير نظام الحكم بطرق غير دستورية، ومحاولة إيصال نخبة موالية تماما لفرنسا.
تصريحات ماكرون، تأتي أيضا، وسط صعود مفتعل، لظاهرة رفض الآخرين، وتحديدا المهاجرين والمسلمين والتي توسعت من اليمين المتطرف لأوساط أخرى، باعتبارها التجارة السياسية المربحة في الوقت الراهن.
المدعو إيرك زمور، صار حامل لواء هذه العقيدة المعادية، ويبدو أنها تتناغم ولو ضمنيا مع أفكار الرئيس الفرنسي، الذي سبق وصرح “أن الإسلام يعيش أزمة”، في وقت يشن وزير داخليته حربا شاملة على المهاجرين والمساجد.
هذه الفوبيا، التي تؤشر على توجه ماكرون نحو وعاء اليمين واليمين المتطرف للعبور إلى عهدة ثانية، تبين مدى التخوف من المستقبل، وتحديدا من “الجيل الثالث” من الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية الذي يتهمون في كل مرة برفض ترديد النشيد الفرنسي، ويعتقد أن خلط ثوابت التاريخ ومحاولة تلميع الماضي الاستعماري لبلاده ستكون مصدر، تنمية الجيل دون عقد “عار” الماضي.
وبدل تبني النموذج الأمريكي أو الكندي في بناء مجتمع متنوع ومتجانس، يبدو أن الرئيس ماكرون، يتجه للوقوع في فخ التضييق والعنصرية، بعدما أوصلته الوسطية ونظرته المتعاطفة مع الجاليات إلى سدة الحكم وهو لا يتجاوز 39 سنة.
وبالنظر إلى تسارع وتيرة التحولات الدولية، وبداية تشكل نظام دولي جديد، سيعمق فوز ماكرون بعهدة ثانية، مشكلات فرنسا، ويرسخ انحسار نفوذها إلى أقصى درجات، في وقت انتهت صلاحية، استعمال ملف الذاكرة مع الجزائر كمسكن لتحويل الأنظار.