في خضم حرب سيبرانية، الإشاعة سلاحها الفتاك، تعززت قوة “السلطة الرابعة” في صناعة مصير المجتمعات وإعادة بنائها، فكانت الوسائط الإلكترونية الوسيلة الأكثر نجاعة لتحقيق أهداف حربية بعيدا عن فرضية تنقل الجيوش على الأرض لربح المعركة، فكما أعادت القنبلة النووية منتصف القرن الماضي توازنات القوى العالمية، أصبح الإعلام الإلكتروني سلاحا قويا للدفاع عن مصالح الدول في عقر دار العدو.
ولأن الجزائر إحدى الدول الإستراتيجية، تعرضت في السنوات الأخيرة إلى هجمات متتالية قادتها وسائط اجتماعية “مأجورة”.
وحاولت (هذه الوسائط) بشت أنواع الإشاعة، التشويش على الرأي العام الوطني وإثارة البلبلة في المجتمع، لكنها وبالرغم من فشلها في تحقيق ذلك، أبانت عن ضرورة امتلاك إعلام الكتروني متمرس يستطيع أن يرتقي لان يكون مصدر المعلومة للجزائريين.
وصنعت الوسائط الاجتماعية فارقا في نقل المعلومة في السنوات الأخيرة حتى تحولت في وقت وجيز الى مصدر “مهم” للخبر.
وعلى الرغم من صعوبة التحقق من صدقها، اتسع فضاؤها لتبلغ درجة صناعة الراي العام للدول والمجتمعات، ولعل ما حدث في الثلاث سنوات الأخيرة خير دليل لقوة الوسائط الإلكترونية في جعل الإشاعة خبرا تتداوله مختلف المواقع الإخبارية، لذلك كان من الضروري بما كان إيجاد بديلا رقميا لمواجهة الكم الهائل من الأخبار الكاذبة المتدفقة خاصة تلك التي تتخذ من كل ما من شأنه ضرب استقرار الجزائر مادة دسمة، للتلاعب بمصيرها.
ازدواجية فارقة
درجت الوسائط الاجتماعية منذ بداية الألفية في الاستحواذ على اهتمام المجتمعات لتصبح بعد سنوات قليلة وسيلة اقناع مؤثرة، نجحت في قلب توازنات الدول وساهمت بشكل كبير في نجاح استراتيجيات لا تظهر معالمها في الميدان، لاستعانتها بمختلف الفضاءات الرقمية من اجل تحقيق غاياتها.
ومع بروز هذه الوسائط كقوة استراتيجية ومحورية انتقلت الحروب وتوازناتها الدقيقة إلى الفضاء الرقمي من خلال توجيه الرأي العام ليبدأ عصر جديد من الحروب اصطلح على تسميتها بالحروب السيبرانية، تنطلق من منصات التواصل الاجتماعي التي كانت نتاج ثورة للذكاء الصناعي وتوظيفها للتحكم بالمحتوى عن طريق خوارزميات متطورة تتحكم في المتلقي بوسائط تعد “الربوتات الاجتماعية” أو الروبوت الرقمي، وشبكات الذباب الالكتروني التي تعمل على تضليل الرأي العام أهمها.
وغالبا ما يوجه مستخدميها بأخبار كاذبة مفبركة تظهر في صورة الواقعة المتكاملة الأركان تشكل وقت تلقيها وانتشارها السريع نقطة مهمة في تأليب الراي العام، وتحويل اهتمامه عن الحقيقة حتى وان كانت ساطعة وتوجيهه إلى ما هو كاذب ليكون مصدر رد فعل غير محسوب العواقب.
وهو ما وضع “التشاركية” الإعلامية محل شك بسبب انها لم تحقق تلك الوسائط ديمقراطية الاتصال مثلما كان متوقعا من قبل، بل على عكس ذلك تماما وُجدت لتمنح النفوذ والقوة الاتصالية والإعلامية لنخبة لها القدرة على الوصول الى المعلومة ما يعطيها الاسبقية في التلاعب بها حسب ما يراد من خلالها توجيه الراي العام.
هذا بالضبط ما عاشته الجزائر بشكل مكثف في الثلاث سنوات الأخيرة، حيث عرفت هجمات غير مسبوقة لزعزعة استقرارها، خاصة بعد حراك 22فيفري 2019 اين وُضعت أجندات خاصة لإخراجه عن الإطار الذي أوجده.
لذلك كان من الضروري إعادة توجيه مستخدمي الوسائط الاجتماعية من خلال إعلام الكتروني ذي تكوين قوي لمواجهة هجمات سيبرانية تقودها جيوش رقمية من الذباب الإلكتروني.
الوسائط الاجتماعية بالأرقام
كشف تقرير دولي شهر فيفري الماضي، ان نصف الجزائريين يستعملون الشبكة العنكبوتية فيما ينشط 25 مليون على شبكات التواصل الاجتماعي، وما يزيد عن الـ 26.35 مليون شخص يستخدمون الانترنيت في الجزائر أي بنسبة 59.6 بالمائة من عدد سكان الجزائر، فيما ولج 46.82 مليون مستخدم الى الانترنيت بواسطة الهواتف النقالة ما يشكل نسبة 105.8 بالمائة.
وبلغ عدد مستخدمي الفايسبوك في الجزائر الى غاية جانفي 2021 أكثر من 23 مليون مستخدم يمثلون 71.8 بالمائة من عدد السكان الذين يتجاوز سنهم الـ13 سنة، فيما بلغ عدد المشتركين بمنصة تويتر اكثر من 625 الف مستخدم أي ما يمثل 2بالمائة من عدد السكان ممن يتجاوز سنهم الـ13سنة، بينما سجل 6.80 مليون مستخدم لمنصة انستغرام، وأخيرا يستخدم 5ملايين جزائري منصة “سناب شات”.
تعكس هذه الأرقام الخطر المحدق بمستخدمي الانترنيت بسبب إمكانية تحولهم الى جزء مهم من حروب الجيل الرابع والخامس من الهجمات السيبرانية لضرب استقرار الجزائر، ما يضع الاعلام الالكتروني في موقف صعب خاصة وانه متأخر جدا بالنظر الى التطور الذي يميز من يقفون وراءها، في وقت حرر الهاتف الذكي مستخدمه من المكان ليجد نفسه سابحا فيه في أي مكان، ولعل نسبة ولوج 105.8 بالمائة من السكان تعطي بشكل واضح المكانة التي تحتلها الوسائط الالكترونية كمصدر للخبر والمعلومة.
حرب “الندرة”
أعلنت الوزارة الوصية شهر مارس الماضي ان الوسائط الاجتماعية تمثل مصدر الأخبار لـ 70 بالمائة من الجزائريين، ما جعل إشاعة واحدة تكفي لإحداث بلبلة وحالة خوف لدى المواطنين الذين وجدوا أنفسهم في حرب الكترونية يصعب فيها تمييز الكذب من الحقيقية، فكانت “حرب الندرة” التي لعب على وترها مريدو زعزعة استقرار الوضع في الجزائر في أكثر من مرة منذ ثلاث سنوات، ولعل كثيرون يذكرون الصور التي صنعتها إشاعة ندرة “السميد” و”الزيت” بداية جائحة كورونا شهر أفريل 2020، فبالرغم من توفر المادة إلا أن إشاعة واحدة كانت كافية لجعل المواطن يتسارع لشرائها بكميات كبيرة خوفا من عدم توفرها في الأسواق.
لتزيد “ندرة” الأوكسجين في المستشفيات الصائفة الماضية بالرغم من تأكيد السلطات الوصية أنها ليست أزمة ندرة بل هو مشكل ازدياد الطلب على هذه المادة الحيوية بسبب الموجة الثانية للمتحور “دلتا”، لكن المواطن وبسبب تلاعب الوسائط الاجتماعية بأزماته أصبحت بالنسبة له مصدر المعلومة، لذلك يهرع الى الطوابير الطويلة والسوق السوداء من اجل توفير مادة استغلت استغلالا موفقا في “حرب” الندرة، ما جعله فريسة سهلة بين فكي المضاربين.
ولا يمكن التغافل عن تفطن المضاربين للدور الذي تؤديه الوسائط الاجتماعية في نقل المعلومة، فقد استعملوها استعمالا منافيا للأخلاق في التعامل مع الازمة الصحية الاستثنائية المرتبطة بفيروس كورونا، فكانوا الوجه الاخر او أحد الاذرع المسمومة الموجه نحو استهداف استقرار الجزائر وامنها.
ولم تكن المواقع الالكترونية الـ 150 كافية لصد مثل هذه الهجمات التي تعتمد على المواطن البسيط وحاجياته وسيلة سهلة لتحويله الى سلاح خفي يعمل ضد مصالح بلده، لذلك كانت كورونا تجربة ميدانية وواقعية تعكس الضرورة القصوى لإعادة توجيه الـ 70 بالمائة من الجزائريين نحو مواقع الالكترونية جزائرية آمنة تعطي المواطن المعلومة الصحيحة والحقيقة الكاملة في حينها لمنع توظيفيها خارج سياقها.
توظيف إيجابي
ولنا ان نتخذ من الدور الذي تقوم به الوسائط الاجتماعية في منع انزلاق الوضع بعد الجريمة البشعة لقتل وحرق الشاب جمال بن إسماعيل في شهر أوت الماضي مثالا على قوتها ان وظفت بالطريقة الصحيحة، ولنتخيل فقط لو كان عجزا في مواجهة تلك الهجمات في استغلال الحادثة، ستكون الحقيقة الواحدة حينها بلوغ الحرب السيبرانية هدفها، لكن مواجهة ذلك المشروع في مختلف الوسائط الاجتماعية أعطى الجزائر قوة اكبر في مواجهة الأسوأ، ففوتت الفرصة على من يقفون وراء الذباب الالكتروني.