كان قرار إنشاء منطقة مستقلة بالجزائر العاصمة نهاية سبتمبر 1956 وبعد مؤتمر الصومام نابعا من خصوصية العاصمة التي كانت تضم أهم المؤسسات الفرنسية آنذاك إلى جانب القنصليات والصحافة الأجنبية.
وكانت أحياءها “الراقية” تعج بالفرنسيين والأوربيين مما استوجب كفاحا مختلفا عن ذلك الذي كان يقوم به المجاهدون في الجبال الوعرة، حيث كانت العمليات الفدائية الأسلوب الأنسب بالنظر إلى خصوصية المنطقة.
قال المجاهد الطاهر الحسين إن بداية المنطقة المستقلة كانت مع العربي بن مهيدي، عبان رمضان وبن يوسف بن خدة، الذين عملوا أيضا على تقسيم هذه المنطقة إلى نواحي، وكانت القصبة هي المركز الأساسي الذي كانت تدار فيه الاجتماعات السرية للقادة للتخطيط لمختلف الهجمات التي كانت تستهدف العسكريين الفرنسيين، قبل أن يعين ياسف سعدي مسؤولا عسكريا للمنطقة.
خطوة “التطهير”
وأضاف المجاهد، وهو يروي بحماس تفاصيل تلك الفترة التي شارك فيها إلى جانب عدد كبير من شباب العاصمة الذين كانوا يتمتعون بوعي كبير بضرورة طرد المستعمر وتحقيق الاستقلال نتيجة تمدرسهم في صفوف الكشافة الاسلامية الجزائرية، أن أول خطوة قام بها المجاهدون آنذاك كانت ما يسمى بـ “التطهير” أي إعادة الجزائريين إلى النظام والامتثال لأوامر جبهة التحرير الوطني، خصوصا أصحاب المقاهي والنوادي والتي تعمدت فرنسا الاستعمارية إلهاءهم عن قضيتهم الأساسية وهي تحرير الوطن عن طريق تنظيم جلسات الرقص والسمر.
ولهذا الغرض، قام الشباب الذين جندتهم جبهة التحرير الوطني بالاتصال بأصحاب المقاهي والنوادي ودعوتهم للامتثال إلى أوامر الجبهة والالتفاف حولها وكانت الاستجابة واسعة، كما أن بعضهم كان يستغل النادي كواجهة يخفي بها نشاطه الحقيقي عن المستعمر إذ كانوا يستعملون الأقبية كملاجئ للمجاهدين ومقرات لاجتماعاتهم السرية.
العمليات الفدائية
واستغلت جبهة التحرير الوطني، حسب رواية المجاهد الطاهر حسين، الجريدة الوطنية الصادرة باللغة الفرنسية لنقل رسائلها إلى عموم الشعب بمن فيهم سكان العاصمة والخطاب المسجدي لنشر الوعي بأهمية الثورة وغرس روح الوطنية لدى الشباب.
واعتمدت المناشير التي كانت توضع في صناديق البريد الخاصة بالقنصليات لإعلام الرأي العام الدولي بوجود الثورة وبحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال.
وبدأت العمليات الفدائية في المنطقة المستقلة، حيث كلف عدد من خيرة شباب العاصمة منهم المجاهد محمود عرباجي (ابن عم عبد الرحمان عرباجي أحد رموز الثورة والمنطقة المستقلة) بزرع القنابل في الأهداف التي حددها القادة آنذاك.
ونجحت أغلب تلك العمليات في زرع الرعب في صفوف المستعمر الذي رد عليها بعمليات واسعة لمطاردة الفدائيين وتمكن من أسر البعض حيث أعدم عددا منهم وحكم على آخرين بالمؤبد.
وفي المقابل، لم تهمل جبهة التحرير الوطني الجانب الاجتماعي، حيث كانت تتكفل بعائلات وأبناء المجاهدين والشهداء الذين دفعوا أرواحهم فداء للوطن.
أبشع الممارسات الإجرامية
وقال المجاهد محمود عرباجي إن فرنسا كانت تعتقد أن القضاء على الفدائيين في العاصمة يعني القضاء على الثورة، حيث مارست أبشع الممارسات الإجرامية ضد الجزائريين، لافتا إلى أن كل ما كان يحدث في المنطقة المستقلة تتناوله الصحافة الفرنسية، الأوربية وحتى الأمريكية، لتصبح الجزائر تتصدر عوانين الجرائد الدولية، بحيث شكلت المنطقة آنذاك “نواة الثورة وواجهتها في الخارج”.
وأكد الباحث في التاريخ، عامر رخيلة، أن الجزائر العاصمة كان لها طابع خاص ومختلف عن باقي الولايات باعتبارها عاصمة البلاد وضمت مجموعة كبيرة من المستوطنين الأوربيين.
المنطقة ضمت مؤسسات فرنسية وقنصليات أجنبية، وحتى مؤسسات الثورة كانت في البداية متواجدة هناك، مما استلزم إعطاءها صفة المنطقة المستقلة التي تتلاءم أكثر مع العمليات الفدائية والاجتماعية وأعمال التعبئة والتجنيد.
وركز النضال في المنطقة المستقلة للجزائر العاصمة لما تحمله من خصوصيات، يضيف الأستاذ رخيلة، على توظيف جميع فئات المجتمع، بما فيها المرأة، الطفل، الشيخ، التاجر، المثقف وغيرهم مع إمكانية الاتصال مع مقومات الشعب الأوروبي.
وعرفت كخلية للتنظيم القاعدي والسري للفدائيين الذي كان قويا بين سنتي 1956 و1957 قبل أن يتراجع خلال سنوات ويعود للبروز من جديد سنة 1960.
وعن أهمية المنطقة المستقلة في ثورة التحرير الوطني، أكد الأستاذ رخيلة أنها كانت محط أنظار العالم من خلال تقارير دورية كانت تعدها وسائل الإعلام الفرنسية الثقيلة التي كانت موجودة في الجزائر والصحفيين الأوربيين والأمريكيين المعتمدين، حيث أن أحداث العاصمة لم تغب يوما عن أخبار الجرائد.
وكان لهذه المسألة انعكاساتها على الرأي العام الأوروبي والأمريكي وحتى على الموقف الرسمي لتلك الدول، حيث توقفت الولايات المتحدة عن التصويت لصالح فرنسا في الجمعية العامة للأمم المتحدة مثلما كانت تفعل من قبل واكتفت بالامتناع عن التصويت.
وحذت حذوها دول أوروبية قامت بعضها لاحقا بفتح ممثليات لها في الجزائر بعد تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.