في وقت تصر الجزائر على استرجاعه كاملا، تواصل فرنسا سياسة “الخطوات الصغيرة”، في التعامل مع ملف الأرشيف خصوصا والذاكرة عموما. ورفع السرية عن جزء من الأرشيف، مثلما أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية، اليوم، وإتاحة الاطلاع عليه بإجراءات بيروقراطية معقدة، لا يكفي لرفع اللبس عن حقائق التاريخ.
وأفادت وزيرة الثقافة الفرنسية، روزلين باشلو، إنها وقعت مرسوما يقضي برفع السرية عن أرشيف “التحقيقات” الخاص بقوات شرطة ودرك الاستعمار الفرنسي، إبان الثورة التحريرية الجزائرية.
وأشارت باشلو المعروفة بقربها من التيار الديغولي، إلى إتاحة الاطلاع على الوثائق ذات الصلة، قبل 15 سنة عن الموعد القانون للإفراج عنها (75 سنة)، وقالت: “لدينا أشياء يجب إعادة بنائها مع الجزائر ولا يمكن إعادة بنائها إلا بناء على الحقيقة”.
في المقابل، سأل الصحفي إريك بوردان، الوزيرة الفرنسية، عن مدى وعي الحكومة الفرنسية، بأبعاد هذه الخطوة، وقال:”ألا يشكل ذلك خطرا، في أن نكتشف أن الجيش الفرنسي مارس أعمال تعذيب أو أن يتأكد ذلك على الأقل”، لترد بأنه “من مصلحة البلاد الاعتراف بها”.
وكررت كثيرا عبارات الرئيس ماكرون الشهيرة، بشأن ضرورة مواجهة تاريخ بلاده الاستعمار والنظر إليه مباشرة، مضيفة أنه “لا يمكن بناء رواية على الكذب”، في إشارة إلى هيمنة رؤية “النكران” التي تعمل اللوبيات المتطرفة وسلالة الحركى والمنظمة السرية الإرهابية على فرضها بالقوة منذ 60 عاما.
الكثير من التقارير الإعلامية، وطيلة نهار اليوم، ربطت ما صرحت به باشلو، بالزيارة الأخيرة (قبل يومين) لوزير الخارجية جون إيف لودريان إلى الجزائر، في محاولات إلى الإيحاء بوجود تفاهمات معينة قد تم التوصل إليها في هذا الاتجاه.
غير أن المرسوم الذي وقعته الوزيرة الفرنسية، جاء تنفيذ لقرار إيمانويل ماكرون، في 09 مارس 2021، والقاضي بتسهيل الوصول إلى الأرشيف السري الذي يزيد عمره عن 50 عاما “خاصة ذلك الذي له صلة بالثورة الجزائرية”.
ومعروف أن فرنسا تصدر، مرحليا (كل 10 سنوات تقريبا) مراسيم خاصة بالإفراج عن محتويات الأرشيف وفق مدة زمنية معينة، ولا يمكن وضع رفع السرية عن “تحقيقات” الشرطة الاستعمارية الفرنسية إبان ثورة التحرير إلا ضمن هذه الخانة وأيضا ضمن نطاق “سياسة الخطوات الصغيرة” التي ينتهجها الرئيس الفرنسي في ملف الذاكرة مع الجزائر، بما يتماشى وتوصيات المؤرخ بنجامين ستورا.
هذه الخطوات، رفضت الجزائر التعاطي معها أو حتى التعليق عليها، نظرا “لكونها تساوي بين الضحية والجلاد” من جهة، وكونها خصوصا “شأن فرنسي-فرنسي” لحد الآن من جهة خرى، نظرا لعمق الخلافات الفرنسية في التعاطي مع عار الاستعمار.
وتطالب الجزائر، باستعادة الأرشيف الوطني المرتبط بالاستعمار الفرنسي 1830-1962، والمتعلق بالحقبة العثمانية كاملا غير منقوص، باعتباره إرثا حضاريا وطنيا. ولا تقبل أبدا بالاكتفاء بمجرد “إتاحة” الاطلاع على محتويات يتم انتقاؤها، والولوج إليها بعد استنفاذ إجراءات بيروقراطية كبيرة.
وينطوي ما أقرته السلطات الفرنسية اليوم، على محاذير كبيرة، تفرض على الطرف الجزائري التعامل معها بعناية فائقة فما أسمته وسائل الإعلام الفرنسية الرسمية “تحقيقات الدرك والشرطة الفرنسية”، هي في الحقيقة عمليات “استنطاق وحشية”، مارست من خلاله على الجزائريين أحدث أساليب التعذيب النفسي والجسدي. على غرار ما كان يقوم به المكتب الخاص (المكتب الثاني) للاستخبارات الفرنسية والذي امتهن حيلة الوشاية الكاذبة للإيقاع بين الجزائريين وضرب الثقة فيما بينهم.
وإن كان لابد من سياق، يوضع فيه تصريح وزيرة الثقافة الفرنسية، فهو ذلك المتعلق بمقترح القانون الذي ناقشه البرلمان الفرنسي قبل يومين والمتعلق “بالاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن جرائم 17 أكتوبر 1961″، الذي بادر به عدد محدود من النواب، وكيف انتفض ضدهم نواب اللوبيات الحاقدة الذي يرون “عزة” فرنسا فيما ارتكبته من جرائم بشعة في الجزائر.