تمكّنت الدّبلوماسية الجزائرية طوال عقود من نشاطها، بفضل تاريخها، نجاعتها وثباتها على مبادئها، من حل العديد من الأزمات والتوترات على الصعيدين الإقليمي والدولي، جاعلة من الجزائر بلدا مصدرا لقيم السلم والاستقرار.
في هذا الشأن يقف الدكتور سمير محرز، أستاذ محاضر بقسم العلوم السياسية بجامعة تيسمسيلت في حواره لـ «الشعب » عند أهم المحطّات التي ميزت الدبلوماسية الجزائرية سنة 2021، والتي بقيت دائما محافظة على مكانتها وريادتها، وقوّة مقاربتها التي تمتاز بالواقعية والمنطقية، إضافة إلى تثمين ثوابتها الكبرى القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومناصرة القضايا العادلة.
– الشعب: أمضت الدّبلوماسية الجزائرية سنة النشاط المكثف، كيف تقيمون آداءها؟
د.سمير محرز: صحيح، تحقّقت مكاسب مهمّة بفضل الإرادة السياسية التي تبنّتها الدولة مباشرة بعد وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدّة الحكم، فخطاب الجزائر الدبلوماسي كان واضحا خاصة بعد وضع القطيعة أمام تجاوزات بعض القوى والأطراف الدولية، وبالتالي يمكن تحديد أهم الإنجازات كاسترجاع رفات الشهداء من قادة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي يوم 5 جويلية 2020، ووضع فرنسا في حجمها الطبيعي سياسيا ودبلوماسيا.
بالمقابل تمّ تعزيز العلاقات الثنائية مع دول الجوار الشرقية والجنوبية للجزائر، كما وضعت هذه الأخيرة حدّا لتصرفات المخزن الاستفزازية وصلت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وبعدها إعادة تنظيم وترتيب العلاقات وتعزيزها مع دول الخليج والشرق الأوسط، وعودة الجزائر على الصعيد الإفريقي من خلال دعوتها لرفض منح مقعد للكيان الاسرائيلي كعضو مراقب في الاتحاد الافريقي، ولعل الدور الجزائري سيكون أقوى تأثيرا بعد نجاح قمة الأمن والسلم الإفريقي المحتضنة مؤخرا بمدينة وهران، وآخر تحد والذي نراه طبعا إنجازا دبلوماسيا، هو احتضان الجزائر للقمة العربية في مارس 2022، والمطلب الهام بإعادة هيكلة وإصلاح جامعة الدول العربية.
تفاجأت الجزائر في الأشهر الماضية بمواقف صادمة صادرة عن رأس الحكم في فرنسا، وكان رد فعلها صارما وحازما، ما اضطرّ باريس لتراجع نفسها وتقدّر حجم خطيئتها، ما تعليقك على هذه المسألة؟ وإلى أين تتّجه العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
ما يمكن تأكيده في هذا السياق، أن فرنسا منزعجة جدا من الطموحات السياسية والاقتصادية للجزائر بعد صعود الرئيس تبون، ونيته في وضع كل الدول الصديقة والمعتمدة دبلوماسيا على مسافة واحدة دون تفضيل دولة على أخرى، وهذا ما أزعج الطرف الفرنسي، ولكن ما شهدته الفترة الأخيرة هو ذلك التصعيد السياسي والدبلوماسي والتراشق الإعلامي من الطرف الفرنسي تجاه الجزائر بدءا بتصريحات ماكرون ضد الأمة الجزائرية، إضافة لاستفزازات النخبة الفرنسية لكل ما هو جزائري، وصلت إلى حد تعليق العلاقات واستدعاء سفير الجزائر بباريس من طرف رئيس الجمهورية وتقديم رسائل استفسار للطرف الفرنسي من أجل توضيح الخطاب الفرنسي بوضوح، هذا ما جعل وزير الخارجية الفرنسي جون ايف لودريان يتراجع ويدعو للصداقة، وإعادة الثقة من جديد نظرا لحجم العلاقة بين البلدين تاريخيا سياسيا.
وبالتالي كقراءة سياسية لهذا الموضوع، أرى بأن الطرف الفرنسي هو من اندفع في خطابه باستفزازاته، وبالتالي الرد الجزائري كان عقلانيا وواضحا وغير صدامي، والخطوات التي تتخذها الجزائر منذ سنتين أراها مهمة جدا في طبيعة العلاقات بين البلدين، فما يجمع البلدين هو التاريخ والذاكرة والجالية والملفات الاقتصادية والاتفاقيات الثنائية وجب الحفاظ عليها، ووجب التعامل بمنطق رابح – رابح وبالندية بين بلدين كاملي السيادة ولا زعامة لدولة على دولة أخرى، وهذا هو الإتجاه الجديد في العلاقات الفرنسية الجزائرية.
التّحدّي الأكبر الذي واجهته ولا زالت الدبلوماسية الجزائرية في سنة 2021 هو المواقف العدائية التي أبدتها المملكة المغربية من خلال تصريحات مسؤوليها الاستفزازية، وأيضا سماحها لمسؤول صهيوني بتوجيه اتهامات باطلة للجزائر من أرض المغرب، ما تعليقك على هذه الأحداث؟ وتقييمك لرد الجزائر؟
ما يمكن تسجيله بأن الأحداث جد متسارعة، ووتيرة التصاعد لا تبشّر بعودة الوضع إلى ما كانت عليه، فبعد قرار الرئيس تبون بفسخ عقد التعاون مع الديوان الملكي المغربي للغاز، والذي جاء بعد قطع العلاقات الدبلوماسية والاعتداء الإرهابي الجبان على ثلاثة أعوان تجاريين في الممرات الحدودية الصحراوية الموريتانية، وهذا الاعتداء أراه شخصيا يدخل في إطار الاستفزازات المغربية للجزائر، ومحاولة إدخالها في المواجهة المباشرة وإغراق المنطقة في الفوضى والعنف مدعّمة من طرف الكيان الصهيوني، محاولة منها استنزاف قوة الجزائر بالاخص.
لو نقدّم مسحة جيوبوليتيكية على المنطقة، نجد أن شساعة الحدود الجنوبية الجزائرية تتجاوز 4000 كلم، إضافة إلى أزمات دول الجوار كليبيا وحدودها من الجهة الشرقية، ومالي من الحدود الجنوبية والصحراء الغربية، وتصاعد التوتر في منطقة الزويرات والكركرات من الجانب المغربي، كلها تجعل الجزائر تفكر جيدا في آليات مواجهة المغرب بأساليب وطرق ذكية دون استنزاف قوتها العسكرية، لأن هناك أطراف خارجية معلومة وواضحة تسعى لإضعاف قوة الجزائر جيوسياسيا، وتمركزها القوي في منطقة شمال افريقيا والساحل الإفريقي لأن تصاعد قوة الجزائر يزعج مشاريعها في المنطقة وتموقعها في القارة الافريقية.
وبالتالي كان الرد الجزائري قويا وعقلانيا ودبلوماسيا وغير صدامي في نفس الوقت، كما أن الجزائر تتابع كل تحركات المغرب السياسية والميدانية، وهذا بفضل الحنكة والآلة الدبلوماسية الجزائرية.
كيف تتعامل الجزائر مع التّحدّي الذي يشكّله وصول الصهاينة إلى المنطقة؟
الرّهان الصهيوني الممثل في الكيان الإسرائيلي كبير جدا في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا، خاصة بعد الرفض القاطع للجزائر بتواجد هذا الكيان في المنطقة، ما جعله يركز بشكل كبير على الجارة المغرب أكثر من أي وقت مضى، وما تهديدات الصهاينة للجزائر من على الأراضي المغربية إلا دليلا على أجندة إسرائيلية بتواطؤ مغربي، خاصة بعد الرسائل السياسية الخطيرة التي قدمها الإسرائيليون ضد الجزائر ومن دولة جارة، الامر الذي وصفه الرئيس تبون بالعار والعيب على المغرب، وهو ما يجعل الجزائر كما قلت تتابع كل تحركات المغرب، وعبر كل الميادين والأصعدة. وبالتالي التعامل الجزائري مع الصهاينة سيكون ذكيا يغلب عليه طابع المناورة والمواجهة غير المباشرة، مستعينة بذلك بالهيئات والمنظمات الدولية والإفريقية من أجل وضع حد للتحركات الإسرائيلية في المنطقة.
تدرك الجزائر أنّها محاطة بحزام ناري من الأزمات، فكيف تنظر إلى تعاملها مع هذا الواقع الصعب؟
نعم الوضع الإقليمي معقد جدا بالنسبة لكل دول شمال افريقيا وليس الجزائر، ووجب على كل الدول تحمل مسؤولياتها التاريخية أمام تأزم الوضع الأمني والسياسي، إلا أن إدراك الجزائر لهذه المخاطر جعلها تفكر باستراتيجية استباقية ووقائية في نفس الوقت، فالترسانة الدبلوماسية للجزائر تتحرك عبر كل اتجاهاتها، فقد كانت هناك جولة لرمطان لعمامرة إلى مالي وبعض دول الساحل الإفريقي، إضافة لتحركات الوساطة الجزائرية من أجل إنجاح الانتخابات الرئاسية في ليبيا وإعادة بناء وهيكلة مؤسساتها الدستورية، وإعادة الشرعية لليبيا في المحافل الدولية والإقليمية، وصولا إلى زيارة قائد أركان الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة إلى جمهورية مصر من أجل تبادل الخبرات والآراء، وإيجاد الحلول في المنطقة، وآخر التحركات الجزائرية كانت من خلال زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى تونس الأسبوع الماضي، وتقديم مساعدات مالية للجارة الشرقية وتمتين العلاقات بشكل أكبر، كما لا ننسى أن تحركات الآلة الدبلوماسية تجاوزت القارة الإفريقية في الأيام القليلة الماضية من خلال زيارة الوزير الأول لتركيا في إطار قمة التعاون التركي الإفريقي. كل هذه التحركات تجعلنا نستبشر خيرا بعودة الدبلوماسية الجزائرية الى أوج عهدها وقوتها، والمقاربة الجزائرية تجاه حلحلة الأزمات لم ولن تتغير، فهي ترتكز على ثلاثية الحوار التعاون والتنمية في حل الأزمة الليبية ودول منطقة الساحل الإفريقي.
عاد الدور الجزائري ليفرض نفسه ويسمع صوته على المستوى الافريقي دعما لقضايا القارة ودفاعا عنها، وقد ظهرت أهمية هذا الدور من خلال الحملة التي قادتها للعدول عن منح إسرائيل العضوية غير الدائمة في المنتظم القاري، ما هي قراءتك للدور الجزائري إفريقيا؟
نعم، كما ذكرت سابقا الجزائر تتحرك عبر عدة اتجاهات من أجل فرض مقاربتها السياسية والأمنية لأمننة المنطقة، ولعل اللقاء الأخير الذي عقد بمدينة وهران في إطار الندوة الثامنة للسلم والأمن في افريقيا يعد من أهم النشاطات الدبلوماسية هذه السنة أين قدمت الجزائر بموجبها عدة رسائل سياسية من أجل الدفاع على الثوابت الإفريقية، وعدم تدخل القوى الأجنبية ملمحة بذلك للتحركات الإسرائيلية في المنطقة، ووضع حد لها في القارة السمراء من خلال دعوة الجزائر لعدم منح مقعد مراقب للكيان الصهيوني في الإتحاد الإفريقي.
وما تقييم نشاط الدّبلوماسية الجزائرية على المستوى العربي؟
أولا، وجب التأكيد بأن العلاقات الجزائرية العربية هي علاقات متميزة، وتسير في طريق جيد باستثناء العلاقات الجزائرية المغربية التي شهدت تشنجات في الأشهر القليلة الماضية، غير ذلك فالجزائر تعول كثيرا على العمق العربي في القمة العربية المقبلة التي ستستضيفها في مارس 2022، وتقديم أطروحاتها السياسية ووضع كل القضايا على طاولة النقاش السياسي، خاصة تلك القضايا المتعلقة بالوحدة العربية، وتعزيز التعاون العربي العربي والتي أصبحت ضرورة ملحة لإيجاد حلول لبعض الإشكالات السياسية التي تعرقل مسار جامعة الدول العربية مثلا، والتوافق والدفاع من أجل إيجاد حلول للمشكلات السياسية بالمنطقة، والتي تراهن عليها الدبلوماسية الجزائرية كالقضية الفلسطينية، وإيجاد حل لآخر مستعمرة في المنطقة الإفريقية وهي الصحراء الغربية والتي تصنفها في خانة «القضايا الحساسة»، والتي تحتاج لوقت ونقاش هادئ، إضافة لإعادة تنشيط الروح في الجسد الليبي، ولعل أهم ملف تراهن عليه الجزائر والذي نراه مهما وضروريا في الوقت الراهن والحالي هو إعادة إصلاح الجامعة العربية كضرورة سياسية ملحة بالنظر الى التطورات السياسية والدولية الراهنة.