حين تصبح الخطوات قاتلة، والأنفاس بين احتضار وموت، وآلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومعاق، وأزيد من 2700 كلم ألغام على طول جدار العار المغربي، الذي يعرفه الصحراويون جيداً، لأنه يذكرهم بماضٍ قريب، حين تم الاتفاق بين المغرب والبوليساريو على وقف إطلاق النار سنة 1991 ليقسم الوطن شطرين، وتباشر بعدها المغرب عملية زرع 07 ملايين لغم، تحصد الأرواح الى يومنا هذا.. عندها لا تكفي الكلمات للتعبير عن الواقع والحقيقة..
مداعبة الموت
“مرّت 30 عاما من السلام المبتور، ولا يزال الموت جاثماً تحت أقدام الصحراويين في الجزء المحرر من وطننا المغتصب”، بهذه العبارة استقبلتنا الشابة الصحراوية “بيرة المامي” التي تعمل منظفة حقول ألغام في منظمة “سيف لاين غلوبال”.
هي واحدة من عشرات الصحراويات اللواتي تعملن في المنظمة البريطانية منذ ما يقارب 07 سنوات، مهمتُهُن البحث عن الألغام في الأراضي الصحراوية المحررة المحاذية للجدار، نزعها، جمعها ثم تفجيرها، و هي مهمة ليست سهلة على “بيرة” وزميلاتها، فلا مجال لتكرار الخطأ، لأن الخطأ في عملهن يعني الموت المحتوم.
“بيرة” شابة صحراوية وُلدت و ترعرعت في اللجوء، لا تعرف من الوطن إلا اسمه، وخيمة حفظت عزّتها وكرامتها، ووفرت لها ولأبويها الفارين من بطش الاحتلال المغربي ذات يوم من سبعينيات القرن الماضي الأمن والاطمئنان اللذان ينشدهما كل مواطن صحراوي في الجزء المحتل من أراضي الصحراء الغربية.
ولدت بيرة لأسرة لاجئة بمخيم العيون، فرّ والداها من المنزل في الصحراء الغربية بعد اجتياح الجيش المغربي لها، التحق والدها بالجيش الصحراوي حاملاً سلاحه في وجه الغزاة، وسقط شهيداً للواجب في إحدى النواحي العسكرية الصحراوية.
تروي “بيرة” كيف أن تخصص نزع الألغام، كان بالنسبة لها مجرد تقارير يتم بثها بين الحين والآخر على القناة الوطنية الصحراوية من باب التحسيس والتوعية من مخاطرها، ومع حلول سنة 2008 عرفت للمرة الأولى بوجود نساء صحراويات يعملن في هذا المجال، الأمر الذي زادها فضولاً وبقيت الفكرة تراودها الى غاية تخرجها من جامعة سعيدة بشهادة ليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية سنة 2012، لتلتحق مباشرة للعمل بالمتحف الوطني للمقاومة بولاية الشهيد الحافظ، وفي سنة 2015، اتخذت “بيرة” قرارها الشجاع، وتقدمت للمشاركة في مسابقة نظمتها منظمة “سيف لاين غلوبال” ليتم اختيارها رفقة شابتين صحراويتين للعمل ضمن فريق تنظيف حقول الألغام وساحات المعارك، و الانضمام للمكتب الصحراوي لتنسيق الأعمال المتعلقة بالألغام المعروف اختصاراً باسم “سماكو”، ومن هنا كانت البداية.
ولادة بطلة
رفضت بيرة حياة اللجوء، إيمانها العميق بعدالة قضيتها، كوّن في روحها تلك المغامِرة التي كرست حياتها لأجل شعبها وأرضها، فهي ترى أن العمل في نزع الألغام، بالرغم من الكم الكبير من المجازفة والخطورة، تشريفٌ لها، يمكّنها أن تكون فاعلة في مسيرة شعبها النضالية.
الكرامة، والشعب والوطن، ثالوث مقدس بالنسبة لها، والمساهمة في تنظيف حقول الألغام وتأمين مواطني الأراضي المحررة من البدو الرحل والمسافرين وضمان سلامة تنقلهم.. شعور لا يمكن وصفه.
تصف بيرة نزع الألغام بـ “العمل المحفوف بالمخاطر” وبظروف أخرى صعبة قد يجهلها كثيرون، فالسفر مسافات طويلة باتجاه حقوق الألغام يثقل كاهل الفتيات الصحراويات العاملات في المنظمة، ناهيك عن الانقطاع عن الاهل والغياب عنهم فترة قد تصل في بعض الأحيان 03 اشهر في غياب أجهزة اتصالات، ناهيك عن الضغط النفسي والبدني الذي نتعرض له بشكل يومي في عملنا والذي يتطلب منا الكثير من التركيز حفاظاً على أرواحنا و أرواق فريق العمل، فالخطأ الأول هو الخطأ الأخير.
تدرجت بيرة في المنظمة، فكانت بداية مشوارها المهني مكلفة بتنظيف ساحات المعارك في الجزء المحرر من الصحراء الغربية، ضمن فريق عمل مقسم الى فوجين، الاول مكلف بالبحث النظري بالعين المجردة، والثاني مختص بأجهزة الكشف التي يحملها شخصان في آن واحد، فكان معظم تعاملها اليومي مع القنابل العنقودية بأنواعها الثلاث، التي خلّفها القصف المغربي إبان حرب التحرير الأولى، وبعد سنتين من التعامل مع القنابل العنقودية، تم توجيهها الى مجال نزع الالغام الأرضية مع إبقائها ضمن فوج تنظيف ساحات المعارك بسبب تمكنها وإتقان مهنتها .
أول لغم
كالعديد من النساء الصحراويات، أحبّت بيرة مجال عملها وتميزت فيه، جعل المشرفين البريطانيين على المنظمة يشيدون باحترافيتها في التعامل مع ساحات المعارك وتنظيفها كما لو كانت صاحبة خبرة طويلة في هذا المجال، ليتم ضمها الى فريق نزع الألغام الأرضية.
تروي الشابة بيرة كيف تعاملت مع أول لغم نشط في حياتها المهنية، واصفةً الموقف بالغريب المخيف وأنها توقعت انفجاره في وجهها في أية لحظة، غير أن إصرارها على تطهير وطنها والمحافظة على حياة أبنائه، دفعها الى تجاوز الموقف بكل قوة وشجاعة، لتتحول الألغام مع مرور الوقت الى لعب في يديها، تكشف التراب عنها، تسجل إحداثياتها، تنتزعها وتساهم في التخلص منها وتفجيرها، لتكون بذلك قد رسمت للتو مسار حياة جديدة كانت لتلقى حتفها لولا شجاعة وبسالة “بيرة” وعملها البطولي، بل أكثر من ذلك، “بيرة” الشابة الخجولة ليست هي من تنتزع الألغام، لأنها قبل تلك اللحظة، كان نزع الألغام بالنسبة لها مناداةٌ للموت، الآن، هو صناعة للحياة وإنقاذ للأرواح، دفعتها مهنيتها وغيرتها على وطنها الى دخول منطقة “خنيك لجواد” الخطيرة على الحدود مع أمكالا، ووصلت الى نقطة لا تفصلها عن جدار العار سوى 05 كيلومترات، وباشرت عملها في تنظيف حقل الألغام على مرأى من الجنود المغاربة.
أكثر شيء يؤرق “بيرة” في عملها هي السيول الجارفة، والتي تعمل على نقل الألغام من المناطق الملوثة الى أراضي المواطنين الآمنين، وهو ما يصعّب من مهمة فريق نزع الألغام في الصحراء الغربية ويضع حياة المواطنين الأبرياء في خطر حتى أولئك القاطنين على مسافات بعيدة من جدار العار.
خلصت “بيرة” خلال سنوات عملها في حقول الألغام الى أن تنظيف ساحات المعارك يختلف اختلافاً جذرياً مع مهمة نزع الألغام، حيث أن الأخيرة تكون فيها بمفردها، معتمدةً على تركيزها و قدراتها الذاتية وصفاء ذهنها دون الاعتماد على الفريق، و بالتالي، فإنه لا مجال للخطأ، ولا يمكن ترك شبر واحد من الأرض دون التحقق من خلوه من الألغام، لأنها ستكون مسؤولةً أمام ضميرها عن أي حادث أو روح تزهق بسبب لغم تجاوزته بقصد أو بدون قصد، و هو ما يضعها أمام ضغط نفسي رهيب، لان الأرض أرضها و الشعب الصحراوي أبناء وطنها و هي المسؤولة عن حياتهم في تلك الرقعة الجغرافية من الوطن.
لم تخفي “بيرة” سعادتها و اعتزازها بوظيفتها، وقد حظيت بتشجيع الأهل و الأقارب، فهي على يقين بأن المجتمع الصحراوي قد تخلص من عقدة التفرقة بين الجنسين، وتمكنت المرأة الصحراوية من تسجيل حضورها في كل المجالات، بما في ذلك أسلاك الأمن و جيش التحرير الشعبي الصحراوي، فلطالما كانت المرأة الصحراوية ومنذ تأسيس الجبهة الشعبة لتحرير الساقية الحراء ووادي الذهب جنباً الى جنب مع أخيها الرجل، وضعت بصمتها في بناء مؤسسات الدولة الصحراوية، ولا تزال الى اليوم تواصل مسيرتها النضالية الى حين دحر المحتل والعودة الى أرض الوطن، مشيدةً بدعم الجزائر حكومةً وشعباً لمسيرة البناء ومسايرتها لنضال المرأة الصحراوية.