التكنولوجيا ووسائط التواصل الاجتماعي توفر مزايا وتسهيلات في مناحي الحياة، لكنها تطرح معضلات حقيقية ومعقدة، منها تنامي تداول المحتويات المضللة أو الكاذبة، وتطرح تساؤلات عن التفاعل معها وتأثيرها في المجتمع..
مواقع التواصل الاجتماعي بالجزائر فضاء يعج بأخبار كاذبة ومضللة بشكل غير مسبوق. مستخدمون يتداولون الـ “فايك نيوز”، عن قصد أو غير قصد، منها ما يحمل مضامين خطيرة لا يدركها المستخدم العادي ولا يعي تأثيرها وتداعياتها التي قد تكون جنونية على المحيط، قاتلة للأفراد، ومدرة للنسيج الاجتماعي او عناصر الهوية، وما شابه.
“المواطن الصحفي”..
انتشار الـ “فايك نيوز” في السنوات الأخيرة يزيد طرديا مع الإكثار من استخدام وسائط التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى منصات تغذي انتشار الأخبار الكاذبة بحكم مجموعة من الخصائص، لاسيما ما تعلق بالوصول إلى المستخدمين (الجمهور)، دون قيود جغرافية أو زمانية.
هذه المنصات تتيح ظهور ما يعرف بـ “الصحفي المواطن”، اذ يمكن لأي مستخدم عادي أن يوثق مشهدا بالصورة والفيديو، يكتب عنه ويوصله إلى أعداد كبيرة من الجمهور.
هذا المستخدم العادي على منصات التواصل الاجتماعي قد ينشر محتويات غير دقيقة، أو يتفاعل ويروج محتويات يجهل مصدرها والرسائل وراء نشرها، مثله مثل مستخدمين كثيرين، وهذه إحدى المعضلات الحقيقة التي تواجه الأفراد والمجتمعات في عصر الذكاء التكنولوجي..
لذلك يمكن لمنشور كاذب أن يصل مئات الآلاف من المستخدمين في لحظات، إن لم نقل الملايين، وينتشر بسرعة أكبر كلما تفاعل معه مستخدمون آخرون انطلاقا من هواتفهم، في المنزل، الشارع، مكان العمل، والمقهى..
الـ “فايـك نيوز” في الـجزائـر
ارتبط انتشار الظاهرة بشكل غير مسبوق، بالجزائر، بأحداث وفترات عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة.
ومثلما هو معلوم، يستغل مرجو الأخبار الكاذبة والشائعات ظروفا وأوضاعا معينة. وباتت ظاهرة الأخبار المضللة تشكل خطرا حقيقا على الفرد، المجتمع، ومؤسسات الدولة.
تداول وترويج الـ “فايك نيوز” يأخذ أشكالا عديدة في الجزائر: صور، فيديوهات، تزييف تصريحات مسؤولين، تزوير وثائق وبيانات لمؤسسات رسمية، نشر فيديوهات حدثت في فترات ومناسبات ماضية وربطها بقضايا وأحداث راهنة.
نماذج عن أخبار كاذبة استغل مروجوها طرقا عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، حسابات مجهولة، منها تزييف اسم وشعار صفحات لمؤسسات عمومية، هيئات ومنظمات نقابية، وسائل إعلام، وحتى انتحال صفة أشخاص مؤثرين..
في كثير من الأحيان، وقع صحافيون في فخ نقل محتوى غير صحيح لعدم التدقيق والتحقق من صحة والمصادر، التي تداولت الخبر في “فايسبوك”، وهو تحدي يواجه وسائل الإعلام بمنصات التواصل الاجتماعي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتزييف والتلاعب بالصور والصوت والحركات، ما يتطلب مهارات وتقنيات عالية للتأكد من صحة ما المحتوى.
بالعودة إلى توسع انتشار هذه الظاهرة بالجزائر في السنوات الأخيرة، بلغت مخاطر تداول الأخبار الكاذبة إلى حد تزوير نسخة من وثيقة تعديل الدستور وتداولها على مواقع التواصل الاجتماعي.
الوثيقة التي جرى تداولها لا تمت بصلة للمشروع المقدم آنذاك للجنة الخبراء، ونُشرت في عز الموجة الأولى لجائحة كورونا، حيث سارعت مصالح رئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان توضيحي تقول فيه: “الظرف لا يسمح بمناقشة وثيقة أساسية بحجم تعديل الدستور”.
وأضافت إن “كل ما يتم تداوله حاليا بشأن أي نسخة حول تعديل الدستور، لا يلزم إلا أصحابها، الذين يقعون لا محالة تحت طائلة المتابعة القضائية، خاصة وأن هذه النسخة المزورة تتضمن مسّا صريحا ببعض ثوابت الأمة وهويتها”.
يُصنف هذا النوع من الأخبار الكاذبة ضمن التضليل الإعلامي الذي يراد من ورائه تحقيق أهداف خدمة لأجندة معينة، وهنا نتحدث عن صناعة التضليل.
الشائعات وقت الأزمات..
من أبرز القطاعات التي تلتصق بها الأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، قطاع الصحة، منذ الأيام الأولى لظهور جائحة كورونا والأمر مستمر إلى يومنا هذا..
في بداية الأزمة الصحية، ارتبطت الشائعات بعدد المصابين والوفيات، الوضع في المستشفيات، ثم أزمة الأكسجين والتلقيح ضد الوباء.
من أمثلة ذلك، قبل أسابيع قليلة فقط، قضية الطبيب المزيف، الذي انتحل صفة طبيب مختص وينشط بموقع “تيك توك” بفيديوهات تشكك في التلقيح ضد كوفيدـ19، حسب ما كشفه وكيل الجمهورية لدى محمد سيدي امحمد نور الدين تريعة.
منتحل صفة “طبيب” تابعه حوالي مليون و700 ألف مشاهد في تطبيق “تيك توك”، وكان يحرض ضد التلقيح والقيام حتى بتشخيص المرضى برسائل “فايبر”.
ولم تسلم دوائر وزارية من سهام الـ “فايك نيوز”، مثل الدفاع الوطني، الداخلية، العدالة، التربية..
وكان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون حذّر، مرات عديدة، من الإشاعات التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي في مختلف القطاعات، وتستغل الظرف الصحي الحالي لزرع “الهلع” في نفوس المواطنين بنشر أخبار كاذبة وفيديوهات ملفقة.
وقال الرئيس بشأنها:” الإشاعات تحولت إلى سلاح بين أيادي من يريدون زعزعة استقرار الجزائر عبر مواقع التواصل الاجتماعي”، و”تمس الأمن القومي وهو ما دعانا إلى استحداث قطب جزائي يتكفل بمعالجة الجرائم السيبرانية”.
..الإعلام الأجنبي
تواجه الجزائر، أيضا، نوعا آخر من “وباء” الأخبار، ونتحدث عن حملات مغرضة في وسائل إعلام أجنبية، استهدفت جوانب معينة، وهو ما نفصل فيه في مواضيع لاحقة.
مصدر “صناعة” وترويج الأخبار الكاذبة لا يكون دائما صفحات وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، وأنسب دليل ما نشرته مؤسسات إعلامية أجنبيه حول قضايا معينة في الجزائر، منها ما نشرته مجلة “جون أفريك”، صحيفة “لوموند”، مواقع الكترونية مغربية.. آلخ، جوانب سنعود إليها بالتفصيل في مواضيع لاحقة.
صناعة الأخبار الكاذبة، يحمل أبعادا سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة جدا، بعضها يتجلى في “هجومات” من وسائل إعلام أجنبية شهدتها الجزائر في السنتين الماضيتين، وفي هذا الشق توجد أمثلة عديدة، نذكر منها “أكاذيب” نشرها موقع مجلة جون أفريك يوم 15 جوان 2021 حول رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
عموما، الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي، ليست ظاهرة جديدة وليدة عصرنا الحالي، اقترنت في عقود مضت بالصحافة الصفراء من حيث تضخيم الحقائق أو تقزيمها، غير أنها أخذت أشكالا جديدة وأبعادا خطيرة جدا في بيئة تكنولوجية فائقة التطور، وازدادت تعقيدا مع تقنيات الذكاء الاصطناعي.
مخاوف..
تزداد المخاوف من مخاطر انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة، مثلنا ذكرنا، بتزايد استعمال تكنولوجيا الاتصالات الحديثة وبرمجيات وتطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
وأبرز مثال ما يحدث حاليا في الصراع القائم بين أوكرانيا وروسيا، إذ يتم تداول مشاهد من ألعاب فيديو و فيديوهات معدلة بتقنيات الذكاء الصناعي، تُروج على أنها مشاهد لإسقاط طائرات ومروحيات تخص الصدام العسكري بين الطرفين.. وهذا ما بات يعرف بـ “التزييف العميق”.
هذه التقنيات الحديثة لم تساهم في توسع انتشار التضليل فحسب، بل ساهمت في جعل التضليل حقيقة في عقول مستخدمين، نظرا لصعوبة التمييز بين المحتوى الحقيقي والمضلل.
وبالعودة إلى انتشار الأخبار الكاذبة على “سوشل ميديا”، في آخر السنوات، تشير دراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نشرتها “مجلة العلوم” أن الـ “فايك نيوز” أسرع انتشارا في مواقع التواصل الاجتماعي من المعلومات الصحيحة.
وبلغت نسبة إعادة نشر وإرسال المحتويات الكاذبة من شخص إلى آخر، حسب الدراسة، مقارنة بنسبة تداول الأخبار الحقيقية بـ 70٪.