بين حداثة الفكرة وتميزها، وصلابة الحديد ونعومة يديها، تواصل شق طريقها في صمت بعيداً عن الأضواء، مستخدمةً مهاراتها الفنية العالية بإتقان واحترافية، وعفوية طفولية في الحديث، تدفعنا إلى ولوج عالمها المليء بالأرقام، وما مركبات الوزن الثقيل في يومياتها إلا مهربها الأخير وملاذها الآمن من ضغوطات الحياة.
معطى الله ميلودة، امرأة فتحت عينيها على صور ومشاهد عائلتها المحافظة والمنفتحة على الآخر في آن.
خرجت سيدةً مثابرةً مكافحة، وهي لا تزال في ريعان شبابها.
تبقى الصورة محفورة في وجدانها، راسخةً في ذكرياتها، صورة المدينة التي تفتقر الى الكثير من الحاجيات الأساسية، لتحط بها هذه الذكريات كشابة سلكت دروب العلم والاجتهاد في مجتمع رجالي، زاهدةً ببريق المرأة التي تعيش بداخلها، لتبدأ حكايتها مع حلم خوض تجربة المراقبة التقنية للسيارات.
بعد مسيرة تعليمية كافحت فيها ومن أجلها طويلاً، واضعةً نصب عينيها هدفاً رئيسياً وهو اختراق مجال وظيفي كان ولا يزال حكراً على الرجل، و هي التي لا ترى مانعاً في تجربة المرأة للعمل الميداني الى جانب الرجل.
كانت ميلودة أول شخص يتحصل على شهادة البكالوريا، وأول من يدخل الجامعة من عائلتها، درست الكيمياء الصناعية بجامعة مستغانم، هي التي كانت تحلم مذ نعومة أظافرها أن تكون مهندسة معمارية.
تخرجت من جامعة مستغانم سنة 1997 بشهادة مهندس دولة في الكيمياء الصناعية، لتصطدم بشبح البطالة قرابة 20 شهراً كاملاً، حاولت جاهدة طيلة هذه الفترة للحصول على وظيفة تتماشى ومؤهلاتها العلمية في مدينة تخلو من مناطق صناعية، وانتهي بها المطاف في مديرية الصناعة والمناجم، ومن هنا كانت بداية قصتها مع المركبات.
امرأة تعشق الأرقام
بعد حصولها على وظيفتها الأولى بمديرية الصناعة والمناجم، استفادت ميلودة من العديد من التربصات خارج الولاية في المراقبة التقنية للسيارات، كان أهمها تربص ميداني في الشركة الوطنية للعربات الصناعية “سوناكوم”.
كانت المرأة الوحيدة التي تشغل هذا المنصب على المستوى الوطني، حفّزها في ذلك الدعم الكبير الذي حصلت عليه من الأهل، ومن مدير الصناعة والمناجم آنداك، الذي استشعر بقدرتها على العطاء في هذا الميدان.
وضعت ميلودة أول قدم لها كمراقِبة تقنية للسيارات بتندوف، لتكون بذلك أول امرأة، بل الوحيدة التي اكتسحت هذا المجال من بنات جنسها بالجزائر، ناقلةً حلمها الى واقع ملموس رغم ما صاحب هذا الواقع من مطبّات و عثرات، أجبرها تكوينها وحياتها الخاصة على التمسك بقوة العزيمة والإرادة الصلبة على الاستمرار في العطاء، و إبقاء خبرتها و تمكّنها من تفاصيل المهنة رهن إشارة أصحاب المركبات، لتحصل في النهاية على إشادة و ثناء الرجال قبل النساء، في مهنةٍ، لم تكن لتنجح فيها لو لم تكن معطى الله ميلودة.
لم يكن اقتحام ميلودة مجال المراقبة التقنية للسيارات أمرا صعبا، ترى أن المجتمع التندوفي تقبّل الفكرة منذ الوهلة الاولى، وهو ما اكتشفته من خلال تعاملها مع أصحاب المركبات من أبناء الولاية عكس نظرائهم من ولايات أخرى لم يتقبلوا فكرة قيام سيدة بفحص مركباتهم، محاولين التأقلم مع الوضع الجديد بالنسبة لهم.
عملها اليومي مع المركبات لا يخلو من طرافة، قد تضطر خلاله الى الاستعانة بكرسي وفي بعض الأحيان الى سلالم من أجل الوصول الى الرقم التسلسلي لبعض الشاحنات، كما أنها اعتادت أن تكون محط أنظار و حديث زملائها من الولايات الأخرى خلال التربصات الميدانية التي تشارك فيها، لكونها المرأة الوحيدة التي تعمل كمراقِبة تقنية للسيارات.
لا تذكر “ميلودة” طيلة مشوارها المهني تعرضها لأي مضايقات أو تجاوزات من طرف أصحاب المركبات، عدا نظرات الحيرة و الاستغراب التي ترتسم على أوجه من يقابلها للمرة الأولى، فهي التي كسرت القاعدة واكتسحت بكل جرأة و ثقة ميدان عمل لطالما كان و لا يزال حكراً على الرجال، وهي التي ترى بأن المرأة التندوفية قادرة على اقتحام أي مجال إذا ما تحلّت بالشجاعة و الاجتهاد و الحرص على تأدية عملها على أحسن وجه في حدود طاقتها و امكانياتها كامرأة، يساعدها في ذلك مجتمعها المحلي الذي وصل الى درجة عالية من الانفتاح و التحضر يمكنها من ممارسة عملها بكل احترام.