تخوض الجزائر معركة تسجيل المواقف الدولية وحسم الخيارات الجيواستراتيجية، بأريحية واضحة، بعدما استطاعت صيانة استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي في الفترة الماضية. وأبانت الأزمة الدبلوماسية الحالية مع إسبانيا، مدى قوة الموقع الذي تتخذه لنفسها رغم الزوابع التي لا تنتهي.
تترقب النخب السياسية في إسبانيا، الخطوات المقبلة للجزائر، بعد مرور أسبوع كامل على سحب سفيرها لدى مدريد احتجاجا على التحوّل المفاجئ لموقف رئيس الحكومة بيدرو سانشيز من قضية الصحراء الغربية.
ويعني سحب السفير للتشاور، أنّ العلاقات الثنائية باتت مفتوحة على كل الاحتمالات، وغياب ممثل رئيس الجمهورية الجزائرية في العاصمة الاسبانية، يضع الاتصالات بين الجانبين في أدنى مستوياتها، ما يجعل الجانب الاسباني في قاعة الانتظار.
التعامل الحالي مع ما وصفته كل الأوساط المساندة للشعب الصحراوي، بما فيها أحزاب سياسية إسبانية بـ”الخيانة الثانية”، يبين أنّ الدولة الجزائرية ستكشف عن خطوتها المقبلة بعد تقدير شامل ودقيق للموقف.
وما قد يفهم على أنّه «تريّث»، نابع من موضع قوة الطرف القائم برد الفعل، وهذا مؤشر أحسنت قراءته كل الصحف الاسبانية الأسبوع الماضي، إذ حذرت من أنّ الجزائر هي ذلك «الشريك الذي ما كان ينبغي العبث معه»، بل ذهبت افتتاحيات كبريات الجرائد إلى وصف رسالة سانشيز «بالخطأ الفادح».
من جانب آخر، جلب المنعرج المفاجئ الذي اتخذه رئيس الحكومة الاسبانية بشكل ارتجالي، لبلاده «هزيمة أخلاقية مدوية» أمام الجزائر، «التي وفت بكافة التزاماتها التعاقدية في مجال الغاز وبأسعار جد مرضية، كما لم تستخدم ورقة قوارب الموت لابتزاز مدريد كما يفعل نظام المخزن».
الخارجية الاسبانية، وصفت مرارا الجزائر «بالشريك الاستراتيجي والموثوق»، لتقوم بعدها بصفقة مخالفة للقانون الدولي. وفوق ذلك تصرفت بطريقة لا ترقى إلى مستوى الشراكة التي حاول الجانبان بناءها طيلة عقود.
لا يهم كثيرا، حجم العاصفة السياسية التي ضربت الداخل الإسباني، وأدّت إلى الانقسام الداخلي وانهيار الإجماع الوطني حول القضية الصحراوية. ما يهم هو أنّ اسبانيا باتت شريكا يصعب الوثوق به، لأنّه لا يثبت على قرار، ويكفي أن تدفعه الهجرة غير الشرعية إلى تقديم تنازلات تاريخية.
والآن، من الجيّد تذكر، سعي هذه الحكومة جاهدة، إلى تقليص الاعتماد على الغاز الجزائري سنة 2018، دون مبرر مقنع، قبل أن تعود بعد 4 سنوات لتلحّ في طلب المزيد.
لم يحقق رئيس الوزراء الاسباني، أيّة مكاسب فورية، من خطوته التي لم يطلع عليها حتى وزرائه، وقضى أسبوعا كاملا يجري يمينا وشمالا، بحثا عن تأمين موارد بلاده من الغاز، ورفع تظلمات للاتحاد الأوروبي عن ضعف الارتباط الطاقوي بين شبه الجزيرة الإيبيرية وبقية الدول الأعضاء.
ولم يكلف نفسه عناء الدفاع عن التنازل الفاضح للمغرب أمام حكومته ولا أمام الشعب الاسباني، في وقت حذر حراس السواحل الإسبان، الجمعة، من أنّهم ينتظرون موجة جديدة من المهاجرين القادمين من المغرب لأنّه «بلد لا يمكن الوثوق به».
لعبة الخيارات
وإذا ما تم وضع الخديعة الاسبانية، في سياق كلي، مرتبط بتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، فإنّ فرضية «الانتقام» من «القرار الاقتصادي والسياسي الجزائري المستقبل» تبرز بقوّّة.
فبعض الأطراف تسعى جاهدة إلى دفع الجزائر لاستظهار موقف مبني على «مع» أو «ضد»، وإخراجها مورد الغاز لديها من القاعدة التجارية المحضة إلى القاعدة السياسية والانخراط إلى جانب جهة على حساب أخرى.
ولا يبدو أنّ المحاولات في هذا الاتجاه ستتوقف قريبا. وهنا من المهم جدّا استحضار، مقاومة الجزائر لمؤسسات بريتون وودز، طيلة السنتين الماضتين، ورفضها للاستدانة الخارجية رغم الإغراءات والمساومات.
رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، كان واضحا، وقال في أزيد من مناسبة إنّ ثمن الاستدانة هو التخلي عن سيادة القرار «ولن يكون بمقدورنا الحديث عن القضية الصحراوية ولا القضية الفلسطينية».
هذا الوضع المريح، يجعل بيد الجزائر عدة خيارات للتعامل مع الأزمة العالمية الحالية شديدة التداخل، بل إنّ هناك من يراها فرصة يمكن البناء عليها لتعزيز الموقع الإقليمي للبلاد، دون تقديم أدنى تنازل عن المبادئ الأساسية لسياستها الخارجية.