صحيح أن بريطانيا كانت المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، وأنها كانت تسيطر على 22% من مساحة الكرة الأرضية ويخضع لتاجها كومنولث يمتد في أغلب إفريقيا وفي قدر كبير من آسيا وأمريكا الشمالية واستراليا، مما جعلها الدولة الأكثر خبرة دبلوماسية في التعامل مع العالم بخاصة العالمين الثالث والرابع.
لكن هذه الدولة تأبى أن تعترف بأنها لم تعد ضمن المتحكمين الأهم في بنية النظام الدولي، وخروجها من الاتحاد الأوروبي يعكس في “بعض” جوانبه نوعا من نزعة النستولوجيا، كما أنها تسعى لتبدو شريكا للولايات المتحدة في تحديد مسارات التفاعل الدولي، ومع الإقرار بأن للدولتين روابط تاريخية (كانت أمريكا مستعمرة بريطانية) ولغوية (الانجليزية) واثنية (الانجلوسكسونية) ومذهبية (البروتستنتينية)، وكلها تظهر في النخبة الأمريكية المعروفة بالواسب (WSAP)، إلا ان بريطانيا لا تعدوان تكون مستشارا أمريكيا لا أكثر.
لتأكيد ما ذهبنا له من أن بريطانيا تكابر في تحديد موضعها في موازين القوى الدولية، نعطي المؤشرات التالية:
1- في إجمالي الناتج المحلي على أساس القدرة الشرائية (ppp) وهي الأكثر دلالة من الناتج الاسمي (nominal) تحتل بريطانيا المرتبة الخامسة عالميا، ولكن بتفوق لغير صالحها يصل إلى أكثر من 18 تريليون زيادة لأمريكا عن ناتج بريطانيا أو 12 تريليون مقارنة بالصين أو 3 تريليون مقارنة باليابان وتريليون مقارنة بألمانيا.
2- تحتل بريطانيا المرتبة الثانية عالميا في حجم العجز التجاري بحوالي 122 مليار دولار، ويكاد أن يكون هذا العجز ملازم لميزانها التجاري منذ 1985 مع تغير في الحجم بين سنة وأخرى، ولا شك أن غياب الشمس عن ما كان تحت سيطرتها من مناطق يفسر هذا العجز الكبير جدا.
3- لو ذهبنا لمقاييس القوة العسكرية سنجد أنها تحتل المرتبة الثامنة بقوة نيران تساوي (0.1382) بفارق كبير عن القوى الأخرى السبع المتفوقة عليها.
4- لقياس التطور العلمي نأخذ عدد براءات الاختراع، فنجد أنها تحتل المرتبة 13 عالميا رغم أن لها 9 جامعات من بين أعلى مائة جامعة في ترتيب شنغهاي العالمي.
5- ولو حسبنا عدد المفاعلات النووية سنجد أنها تقف في المرتبة 11 وبنسبة 1.8% من مفاعلات العالم.
6- ولو ذهبنا للمؤشرات الاجتماعية سنجد أنها تحتل المرتبة 78 في عدالة توزيع الدخل (مؤشر غيني) وفي الجريمة الاجتماعية فهناك 73 دولة أفضل منها في هذا الجانب.
7- أما معدل الدخل الفردي ومستوى الرفاه فهي تقبع في المرتبة 26.
8- ولو حسبنا معدل الاستقرار السياسي فهي تقع في المرتبة 70 بمعدل 0.47 من إجمالي 2.5 نقطة.
9- أما الديمقراطية التي كثيرا ما حاولت أن تجعل نفسها من روادها فهي تحتل المرتبة 18 عالميا.
إن بروز “بوادر” نزعات انفصالية تُطل بين الحين والآخر في ويلز وايرلندا الشمالية واسكتلندا هي تعبير عن ترهل إمبراطوري عرفته كل الإمبراطوريات التاريخية، ولم تنقذها النستولوجيا من مأزقها، لكن الغريب ان الكثيرين ما زالوا يعتقدون ان بريطانيا بوريس جونسون هي بريطانيا فيكتوريا.