ركحٌ فارغ وثلاث أزمات، كورونا، تدابير احترازية وغياب الجمهور، كلها اجتمعت في آنٍ واحد، تعددت قرارات الحد من انتشار الوباء، وتعددت معها تدابير أفضت إلى شغور غير مسبوق في فضاء الإنتاج المسرحي، رغم محاولات محتشمة للإبقاء على روح الركح حيةً في وجدان محبيه.
قاعة السينما بتندوف التي بقيت أبوابها موصدةً، والمتأرجح مصيرها بين الغلق الاحترازي والغلق الإبداعي، أيقظت كل كوابيس الناشطين في حقل الفن بالولاية بسكونها الذي يملأ هواءها بعد عقود من النشاط والإبداع، ليختفي كل هذا قبل عامين من اليوم بسبب جائحة كورونا.
يرى بلة بومدين، المخرج المسرحي وأحد الفاعلين في مجاله بالولاية، أن الجائحة أثّرت بشكل كبير على الإنتاج المسرحي في الجزائر، فالتدابير الاحترازية التي كانت متبعةً للحد من انتشار الوباء، كمنع التجمعات وغلق دور العرض، أثرت بشكل مباشر على المسرح وفرضت المسرحيين إلغاء التدريبات والعروض التي كانت مبرمجة.
وعلى النقيض من ذلك، أكد المتحدث لجوء بعض الفرق المسرحية بالولاية إلى الحد من أنشطتها وتقليص شخصيات الأعمال ما بين 03 الى 04 شخصيات فقط حتى تحافظ على صيرورة الإنتاج وألا تتوقف بشكل نهائي.
وأردف بلة بومدين قائلاً أن “المسرح في الجزائر لا يزال بخير”، هناك أناس يضحّون من أجل النهوض بهذا اللون الفني، ويعملون بجد من أجل تطويره، تمكّنوا من إنتاج مسرحي ريادي مثّل الجزائر أحسن تمثيل في المحافل الدولية على غرار مسرحية جي بي أس للمخرج محمد شرشال وغيرها كثير، فالمنتوج الجزائري –يواصل قائلاً- لديه من الإنتاج المسرحي الوطني ما يغذّي شغف عشاقه ويروي ظمأهم من المسرح، فما دام هناك جمهور شغوف بالمسرح الجزائري أكيد سيكون هناك إنتاج مسرحي.
الانتاج الدرامي عمل مناسباتي لا يرضي الجمهور
وأعرب بلة عن أسفه لما يتم عرضه من برامج وأعمال درامية خلال شهر رمضان تحت مسمى “الباقة الرمضانية”، موضحاً أن الفعل الدرامي المعروض في شهر رمضان يحتاج “سياسة إستراتيجية جادة”، حتى نتمكن من الرقي به وبالثقافة عموماً في الجزائر إلى أبعد مدى بما يتناسب وتطلعات الجمهور الجزائر المحافظ، وخاصة إذا نظرنا إليه على أساس أنه صناعة منتجة.
وأشار المتحدث إلى أن “الباقة الرمضانية في الجزائر أصبحت مجرد أعمال موسمية وفعل مناسباتي موجه لشهر رمضان فقط، وهذا هو أكبر خطأ وقعنا فيه”، قائلاً إن العمل الدرامي والسينمائي لا ينبغي أن يكون مناسباتياً ولا يجب علينا أن نعمل لأجل شهر رمضان فقط، ناهيك عن الأخطاء التقنية التي يقع فيها أغلب المخرجين من خلال الشروع في العمل الفني شهر واحد قبل رمضان، لهذا غابت انتاجاتنا الفنية عن التسويق الخارجي باعتبارها صناعة وطنية، والصناعة فعل يمتد على طول السنة، وهو ما يفسر كذلك هروب مشاهدي الشاشة الصغيرة إلى القنوات الأجنبية في رمضان، وهو شيء يمكن التصدي له إذا ما انتهجنا سياسة ثقافية داخلية تلبي رغبات المشاهد وتلزم المنتجين بالعمل على مدار العام.
ويروي بلة بومدين جانباً من تجربته السينمائية، آخرها مشاركته في المسلسل التلفزيوني “أولاد الحلال”، أين تعرض لضغط كبير خلال تصوير حلقات المسلسل الذي كانت تعرض بعد 48 ساعة فقط من تصويرها، واستمر العمل على هذا المنوال إلى غاية العشر الأواخر من شهر رمضان، داعياً إلى جعل الدخول الاجتماعي نقطة انطلاق البرامج الوطنية بما في ذلك قطاع الثقافة باعتباره “الكل”، فالثقافة على حد تعبيره لا يمكن لها أن تكون جزءً، فهي العادات، التقاليد، الفكر والأدب وكل ما يقوم به الإنسان هو ثقافة، وبالتالي يجب إعطاؤها حقها من الاهتمام.
تعزيز الأمن القومي الثقافي
وعرّج بلة بومدين للحديث عن دور ولاية تندوف في المشهد الثقافي الوطني والإقليمي، موضحاً أن الموقع الجغرافي للولاية المطلّة على إقليم مترامي الأطراف، فرض عليه التفكير في الانفتاح على ثقافات دول الجوار والبحث عن طرائق وسبل للمحافظة على ثقافتنا وخصوصيتنا وسط مجتمعات تشبهنا إلى حد كبير.
ويؤكد المتحدث على ضرورة أن يصاحب هذا الانفتاح تعزيزٌ لـ”مناعة الفكر الثقافي للأمة الجزائرية”، من خلال التأسيس لمسرح الساحل الذي سيشكل وعاء ثقافي أدبي جامع للعمل المسرحي لكل دول المنطقة بما يحفظ للثقافة الجزائرية والتندوفية رونقها وتميزها بين ثقافات الدول المجاورة، مضيفاً بأن الواجب المهني والأخلاقي قاداه إلى تنسيق الجهود مع مجموعة من الشباب من الجمهورية الصحراوية تمت ترجمتها إلى أعمال مسرحية وجدت لها مكاناً في مهرجان الأغواط، وهي أولى اللبنات التي يسعى من خلالها إلى تأسيس “مسرح الساحل” الذي يطمح لأن يكون فيه المسرح الجزائري فاعلاً وفعالاً وسط محيط إبداعي يرفض الفراغ.