أحدثت جائحة كورونا، التي حلّت على البشرية في أوائل عام 2020 تغييرات كثيرة على عالمنا في جميع مجالات الحياة؛ بما في ذلك التعليم؛ حيث فرضت الجائحة تدابير معمّمة غير مسبوقة؛ فأُغلقت المؤسّسات التعليمية بجميع مستوياتها – جزئيا أو كليا – في أكثر من 190 بلد في جميع أنحاء العالم بين شهرَي مارس وجويلية 2020؛ ممّا أثّر على حوالي 1.725 مليار طالب. ووفقا لليونسكو؛ فقد كان هذا التّأثير قويا جدا على أكثر من 90 ٪ من طلّاب العالم؛ وهو ما نجم عنه نوع من الشّكوك وحتّى القلق.
لقد واجهت الأنظمة التعليمية تحديّات للتكيّف بسرعة كبيرة لمواجهة هذه المحنة؛ واستطاع المجتمع التّعليمي أن يُظهر قدرته على الصمود، ويُرسي الأسس المتينة لتطوير التعليم العالميّ، وبالتالي؛ فإنّ مفهوم نظام التّعليم المرن تمكّن من فرض نفسه كحجّة سياسية وعملية اجتماعية؛ باعتباره أفقا اجتماعيّا. ويبقى التحدّي يتمحور أساسًا في الحفاظ على مستوى من الأداء؛ بفضل القدرة على الابتكار والإبداع والمرونة في النظام التعليمي؛ ممّا يسمح باستمراره، وهو ما يتطلّب إصلاحا يتّسم بالإصرار والحيوية والاعتراف بالإمكانات العالية للاتّساق بين مستويات التعليم وأساليبه.
لماذا آن أوان تغيير منهج التّعليم؟
لا زال نظامنا التعليميّ في الجزائر يواصل تعليم الطلاب المهارات التقليدية للقرن العشرين، في حين أنّ العالم قد تغيّر بالفعل ولا يزال يتغيّر؛ إذ يؤكّد علماء الاجتماع أنّ نسبة 20 ٪ من المهن القائمة ستختفي في السنوات العشر إلى الخمس عشرة سنة المقبلة، وستظهر العديد من المهن الجديدة، ويعتقد الخبراء في معهد «ماكينزي» العالميّ أنّ ما لا يقِلّ عن 375 مليون وظيفة ستختفي من سوق العمل بحلول عام 2030، ولا أحد يعرف كيف سيكون العالم في السنوات الثلاثين المقبلة.
ومع أنّ البشر لم يسبق وأن تمكّنوا من استشراف المستقبل بدقّة؛ إلّا أَنّهُ يُمكننا أن نضع فرضيات معيّنة؛ لاتّخاذ بعض السياسات العامّة في التعليم؛ كما هو الحال في خيارات السياسات الصناعية. فماذا نحتاج أن نتعلم إذَنْ؟ يجب أن نتذكّرَ ثلاثة مواضيع أساسية للتغيير والإبداع.
- توقّع التّطوّرات: تُعتبر الكفاءة أهمّ عامل يجب أن يمتلكه التلميذ أو الطالب في هذا السياق؛ لاسِيَما كفاءة الانفتاح على آفاق المستقبل، وكنظرة مستقبلية استشرافية؛ يمكننا وضع إستراتيجية تعليمية عن المعرفة والدّراية والمهارات الشخصية؛ والتي ستكون في خدمة الأفراد والمنظّمات في المستقبل. ومن أجل تحقيق ذلك؛ يجب أن نفكّر في التكوين المستمرِّ مدى الحياة؛ وبخاصّةٍ ونحن نشهد اليومَ ولادة العالم من جديد؛ حيث تتسارع وتيرة التحوّلات في نظم التعليم في جميع أنحاء العالم، وتزداد النماذج الجديدة تطوّرًا وتعقيدا.
لقد واجهت البشرية عبر التاريخ كتلة من التحوّلات والتغيّرات المختلفة، وكان أوّل هذه التحوّلات هو الانتقال إلى حياة مستقرّة وزراعة الأرض، يليها الانتقال إلى الصناعة، والآن أصبح الانتقال إلى مجتمع المعلومات ضرورة لابدَّ منها؛ لمُسايرة التغييرات الأخيرة الحاصلة في مجال تكنولوجيا التعليم والاتّصال؛ والتي أنشأت مفاهيم جديدة مثل «مجتمع المعرفة» و»مجتمع المعلومات» و»مهن المستقبل».
إنّ الطفل المولود في عام 2021 سيكون في الثلاثينات من عمره في عام 2050؛ أي: إنّ أمامه حياة طويلة في المستقبل، وسيعيش حتى عام 2100؛ بل وقد يصبح مواطنا نشطا في بداية القرن الثاني والعشرين. إنّ مواكبة الحياة في العقود القليلة المقبلة لن تتطلّب اختراع أفكار ومنتجات جديدة فحسب، بل تتطلّب أيضا إعادة بناء الذّات أكثر فأكثر. وعلى هذا الأساس نتساءل: ما الذي ينبغي أن نعلّمه لطلّابنا؟
تماشيا مع المشهد الاستشرافي؛ ينبغي أن نعلّم الطلّاب المفاتيح الأربعة: التفكير النقدي، والتواصل، والتعاون، والإبداع. وبعبارة أخرى؛ يجب علينا أن نولي المزيد من الاهتمام للمهارات العرضية للحياة العالمية.
- تخفيف بالعبء الزّائد: يحاول الطلّاب -الآنَ – استيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات في معظم المدارس ومراكز التكوين المهنيّ والجامعات، وهذا الأمر يبدو منطقيا في الزمن الماضي؛ حيث لم تكن هناك سوى معلومات قليلة، وتدفّق ضئيل للمعرفة؛ أمّا في القرن الحادي والعشرين؛ فنحن نغرق في كمّ هائل من المعلومات؛ حيث وبواسطة الهاتف الذكي؛ يمكنك قضاء أكثر من عمر في قراءة ويكيبيديا، ومشاهدة المؤتمرات، ومتابعة دورات مجّانية عبر الإنترنت. وباختصار؛ فإنّ الأمر يتعلّق بتطوير القدرة على إعطاء معنى للمعلومات التي يتلقّاها الفرد، والتمييز بين المعلومات الهامّة وغير الهامّة. وأمّا القدرة على الحفظ والتخزين التي فقدناها منذ فترة طويلة أمام أجهزة الكمبيوتر والروبوتات؛ فإنّ كمّية المعرفة التي يمكن وضعها نظريا في ذهن تلميذ ذي 10 سنوات لا تتجاوز 1 جيغا؛ فعلى سبيل المثال؛ يبلغ حجم دليل يتكوّن من 150 صفحة (بمعدل 2400 إلى 2500 حرفٍ) حوالي 0.35 ميغا؛ وإن طلبنا من تلميذ دراسة 10 كتب مدرسية بهذا الحجم في السنة؛ سيتلقّى لمدّة أحد عشر عاما حجما من المعلومات يقلّ عن 40 ميغا، وحتّى إن ضاعفنا هذا الحجم 25 مرّة في شكل تعليم تكميليّ؛ فلن نتحصّل سوى على 1 جيغا من المعلومات؛ وهذا يعني أنّه إذا كان نموذج تعليمنا يرى أنّه من المهمّ ملء ذاكرة التلميذ بكمّ من المعلومات الهامّة وغير الهامّة؛ فإنّ هذا التلميذ سيخسر أمام الآلة حاليًّا، وفي الوقت الذي كان يمكن أن يكتسب فيه مهارة ذات أهمّية كبرى؛ نجده يهدر وقته في تجميع المعلومات التي يمكن أن تكون دون فائدة. وهكذا؛ فنحن ننتج تلاميذ محمّلين بعبء الكتب، وفي النهاية؛ من المهمّ تنظيم نظامنا التعليميّ حتّى لا يصبح التعلّم عبئا على التلميذ.
- التّعاون: من المهمّ تعليم الطّلبة العملَ التعاونيّ؛ إذ يُعْتَبر أهمّ مهارات المستقبل التي لا يعلّمها نظامنا التعليميّ، ونتساءلُ: ما هو التّعاون؟
يرتبط الأمر بتعلّم التّعاون باعتباره مهارة، ثمّ استخدامها من أجل التعلّم؛ وهذا يعني أنّ كلّ طالب يتعلّم بموجب قدراته ومهاراته الخاصة؛ وبالتالي تكون لديه فرصة للتقييم على أساس المساواة مع الآخرين؛ والهدف من ذلك هو تطوير القدرة على العمل في فريق، وتحسين تعلّم الجميع؛ وليس فقط العمل على «إيجاد الحلول للمشاكل»؛ ولكن أيضا العمل على «انشاء جوّ تعاونيّ»، وتكمن مهمّة التّعاون في النهوض بالتلاميذ، وتحسين مستواهم الدراسي، ومكافحة الفشل المدرسي. إنّه تغيير ثقافيّ حقيقيّ؛ يوفّر فضاءً جديدا لدَمَقْرَطَةِ التعليم.
البحث عن صيغة جديدة للتّعليم: التّعليم الافتراضي:
يسمح التّواصل بين الطّلّاب في مجتمع قائم على المعرفة بتطوير الذّكاء الجماعيّ والذكاء الانفعاليّ اللّذَيْن تنشأ عنهما القِيَمُ، كما أضفت الإنترنت قيمة مضافة لمفاهيم الذكاء. ومن التوجّهات الحديثة التي ظهرت في مختلف بلدان العالم: الجامعات الافتراضية والتّعليم عبر الإنترنت.
ويتيح إنشاء جامعات افتراضية وطنية للحكومات حشدَ مواردَ تقنيةٍ وبشرية عالية الجودة، وتركيز جهود الجامعة الافتراضية على الاحتياجات الملحّة لسوق العمل أو نظام التعليم الوطني، واستخدام وتطوير البنية التحتية الحالية لتكنولوجيا الإنترنت، ودعم تطوير التعليم الإلكتروني في المؤسّسات التّعليمية التّقليدية، وتصدير برامج التعليم الإلكتروني إلى بلدان أخرى بلغتها الوطنية.
وفي معرض الحديث عن حقيقة أنّ المستقبل يكمن في التعليم عبر الإنترنت؛ يجب أن نضع في الحسبان عددا من المشاكل المرتبطة بهذه الطريقة. والواقع أنّ تجربة نقل نظم التّعليم في جميع أنحاء العالم إلى التعلّم عن بعد خلال هذه الجائحة قد أثبتت أنّ جودة وجدوى هذا التّعليم تتوقّف إلى حدّ كبير على مستوى ونوعية النّفاذ الرقميّ؛ إذ إنّ نسبة من يستطيع الولوج إلى الإنترنت – اليومَ – حوالي 60 ٪ من سكان العالم، ومِن بين 7.75 مليار شخص على هذا الكوكب؛ فقط 5.19 مليار شخص يملكون هاتفا محمولا (وليس بالضرورة هواتف ذكية) و4.54 مليار فقط يمكنهم الولوج إلى الإنترنت، و3.8 مليار فقط يستخدمون شبكة للتواصل الاجتماعي أو تطبيقا واحدا على الأقل.
وفي الجزائر؛ تشير الإحصائيات إلى أنّ عددا كبيرا من الطلاب لا يملكون للأسف معدّات التّعليم عن بُعد، ولا أمن البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات؛ إضافة إلى ضعف إتقان الأساتذة للتّعليم عبر الخطّ، ومقاومة التّغيير، وهي عوامل تؤدّي إلى صعوبة تطبيق الإنصاف البيداغوجي في التّعلم عبر الإنترنت.
تنظيم جديد للعمل: «العمل الجماعي Coworking» ومختبر «فاب لاب Fab Lab»:
يعدّ العمل الجماعي «coworking» مفهوما جديدا نسبيّا لتنظيم سير العمل؛ ويعني عمل عدد كبير من الأفراد في مشاريع مستقلة؛ ولكنّها متّصلة مع بعضها البعض في مكان واحد؛ لتوفير المساحة، وتحفيز التّواصل الشبكيّ؛ مع اقامة جوّ يتّسم بالإبداع. ويعود استحداث هذا المصطلح إلى «بيرني دي كوفن» (Bernie De Coven) سنة 1999؛ فيما يُعَدّ «براد نيوبرغ» (Brad Newberg) أوّل من أدرج مفهوم العمل الجماعي في الممارسة العملية في سان فرانسيسكو سنة 2005.
يُعتبر تبادل الخبرات والاتّصالات المباشرة أحدَ أبرز مهمّات مراكز العمل الجماعي؛ لاسِيَما أنّ شباب هذا العصر أصبحوا رهينة شبكات التّواصل الاجتماعيّ. وعادة ما يكون بمراكز العمل الجماعي كلّ ما تحتاجه للعمل المريح؛ الأثاث والإنترنت والمعدات المكتبية والقهوة أو الطعام. وبالتالي؛ فإنّ العمل الجماعي في التّعليم – الذي هو جزء من بنية مؤسّسة التّعليم العالي – سيزيد تحفيز الطلاب، ومستوى تعليمهم، ويساعدهم على التطوّر وتبادل الأفكار واكتساب خبرات جديدة وتعليمهم الانضباط والتّنظيم الذاتي.
وعموما؛ تصبح الشركات الناشئة -التي دخلت السوق لِتوّها ولا تملك الميزانية الكافية لاستئجار مكانٍ كامل – مستأجِرة بفضاء العمل الجماعي مجّانا، كما أنّ هناك عدّة أشكال مماثلة للعمل الجماعيّ من النّاحية التّنظيمية؛ ولكن لها خصائصها؛ ومن بينها: الحاضنات؛ التي تهدف أنشطتها إلى دعم الشركات النّاشئة من تطوير الأفكار إلى التّسويق. ويكمن الفرق بين الحاضنة والعمل الجماعيّ في أنّ الغرض الرئيس من الحاضنة هو تقديم الخدمات (الاستشارية والمحاسبية والقانونية)، والثاني هو مكان للعمل.
ويعدّ «فاب لاب» شكلا آخر من أشكال التنظيم البيداغوجيّ للعمل؛ وهو ورشة عمل مجهّزة بالآلات ذات التّحكّم الرقميّ، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والأدوات الأساس التي تسمح للجميع بصنع شيء معيّن؛ من السيارة إلى الأدوات المنزلية البسيطة.
وقد صُمِّم مفهوم «فاب لاب» استنادا إلى المحاضرات الجامعية التي قدّمها «نيل غيرشنفيلد» (Neil Gershenfeld) بعنوان: «كيف نفعل أيّ شيء (تقريبا)؟»، ودخل حيّز التنفيذ عام 2001؛ حيث رأى النّور – لأوّل مرّة -في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في المركز متعدّد التخصّصات للبِت والذرّات (CIB)، حيث «يُهجّن الباحثون البت والذرات» مع الجمع بين علوم الإعلام الآلي والفيزياء، والبرمجة مع الهندسة، والرقمية مع الوسائل التّقنية، ثمّ أخذت حركة مختبر «فاب لاب» العالمية تتوسّع شيئا فشيئا.
وهكذا؛ تأسّس مفهوم مختبر «فاب لاب» بالجامعة؛ ليثبت للطّلّاب كيف تعمل المفاهيم النظرية في التطبيق، وكيف يمكنهم استخدام المعارف العلمية بأنفسهم؛ لحلّ مشكلة عملية معيّنة على الصّعيد العالميّ، وكيف يكون سير تطوير الفكرة إلى غاية تنفيذها، وأيضا كيف يتمّ ترتيب ودمج أدوار العالم والمقاول.
ويميّز الوصفُ «مفتوح» فلسفة مختبرات «فاب لاب» وتوابع هذه الفلسفة: الولوج المفتوح، والفضاء المفتوح، والمصدر المفتوح، والتصميم المفتوح، والمعرفة المفتوحة، والعلوم المفتوحة، والمنصة المفتوحة…ويمكن أن تكون أشكال مختبرات «فاب لاب» مختلفة أيضا: تربوية، مقاولاتية، بحثية…ولا شكّ أنّ البيداغوجيا المبتكرة تدعم هذه الممارسات الجديدة الأكثر مرونة، والأكثر حركية، والأكثر قابلية للتطور؛ والتي تشكّل دعما للتغيير.
في الخـتام
ماذا يمكننا أن نفعل بعد كوفيد 19؟ من الناحية الواقعية؛ ينبغي أن يستخلص «نظام التّعليم اللّاحق» العبر والدروس من هذه الأزمة، فنحن بحاجة إلى التّفكير بعمق – فيما سيأتي لاحقا – من أجل تأسيس منهج متكامل للتّعلم عبر الإنترنت، وإعادة التفكير في البرامج الدراسية؛ من أجل دمجٍ أحسن للمحتوى المعرفي الجديد، والتحكم بالتكنولوجيا ومهارات التعاون والفرص الجديدة للتّعلّم، وتقييم المتعلّم ورعايته، وأخيرا؛ تعزيز النّظام؛ من خلال التكييف؛ ممّا يتطلّب إجراء مناقشة على أوسع نطاق بخصوص الهدف من النّظام الوطنيّ للتّعليم، كما يعدّ الإصرار أكثر على التغيير الإيجابيّ والتعاون والمرونة العقلية والمجتمعية في التّعليم مفتاح النجاح في المستقبل.
كمال بداري
بروفيسور جامعي في الرياضيات والفيزياء
خبير في التعليم العالي والبحث العلمي وفي إدارة التغيير – جامعة المسيلة