نشرت مجلة “تجسير” ودار نشر جامعة قطر، شهر جوان، مقالا حول السياسة الخارجية الجزائرية ومكامن القوة الناعمة التي تتمتع بها الجزائر وضرورة تفعيلها في عالم متغير.
تناول المقال الذي حمل عنوان “قوة إقليمية معطلة: سياسة خارجية كلاسيكية في عالم متغير- تأملات نقدية في ضوء مقاربة القوة الناعمة”، مقدرات القوة الناعمة التي تزخر بها الجزائر. ويستعرض السبل الكفيلة بتفعيلها من أجل استرجاع المكانة التي تليق بها. خاصة مع التحولات الدولية الراهنة التي تسير في صالح القوى المتوسطة. تعتبر الجزائر إحدى هذه القوى التي يمكن أن تؤثر في هذا العالم المتحول إن أحسنت استغلال مصادر قوتها الناعمة.
القدوة
يتطرق المقال إلى التأصيل النظري لمفهوم القوة الناعمة عند المنظر الليبرالي الأمريكي جوزيف ناي. استخدم المفهوم لأول مرة سنة 1990 في كتب “وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية”. ثم حوله إلى” القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية” عام 2004 .
اعتبر ناي أن القوة الناعمة هي أحد أساليب التأثير في الآخر دون اللجوء إلى القوة الصلبة. يمكن للدولة ان تؤثر في سلوك غيرها من الدول إذا مثلت قدوة، أي إذا جعلت غيرها يعجب يقيمها ومثلها ويحاول تبنيها أو تقليدها. ما يعني أن المتأثًّر سيحذو حذو المؤثِّر رغبة لا رهبة. والقوة الناعمة حسب ناي هي مزيج بين التأثير والإقناع والاستمالة والجذب وهذا الخير يؤدي إلى الإذعان.
ويشير المقال إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتمدت على مكامن القوة الناعمة طيلة عقود. وتتمثل هذه العناصر في الثقافة الأمريكية والسياسات والقيم الداخلية إلى جانب سياستها الخارجية التي مثلت عوامل جذب.
نشير إلى أن هذا التأثير هو ما أطلق عليه فيما بعد “الأمركة” أمركة العالم . حيث نشرت الولايات المتحدة الأمريكية ثقافتها: الأكل مثل البيتزا والبرغر، واللباس الجينز خاصة. واللغة وطريقة العيش المبنية على أساسا الاستهلاك الواسع وإلى ما ذلك من المظاهر الثقافية. علاوة على السيطرة على صنع القرار العالمي ونشر النموذج الاقتصادي الأمريكي، ونظام الحكم الديمقراطي وفق المنظور الأمريكي.
وبالعودة إلى المقال، تتأثر القوة الناعمة بثلاثة عوامل. الأولى أن القيم الضيقة والثقافات المحدودة يقل إنتاجها للقوة الناعمة. قصور التأثير إذا كان المستهدف منجذبا أصلا للقيم نفسها ويعمل عليها. وجود الموارد الضخمة لا يعني امتلاك القوة، الأهم هو تحويل المورد إلى قوة حقيقية. ويضرب مثالا بالنفط الذي لم يكن مورد قوة قبل العصر الصناعي، واليورانيوم الذي لم يكن كذلك قبل العصر النووي. بمعنى مواءمة مورد القوة لسلوك القوة في الوقت المناسب.
السياسة الخارجية الجزائرية منذ الاستقلال
يتناول المقال في القسم الثاني السياسة الخارجية الجزائرية منذ الاستقلال. واعتمادها على القوة الصلبة والآليات الكلاسيكية لحماية الأمن القومي والاستقرار الإقليمي وتشكيل الجوار الإقليمي. لكن يشير كاتب المقال إلى ان هذا المنطق وجد في ظروف إقليمية ودولية مغايرة لتلك السائدة اليوم.
وأوضح أن معاناة الجزائر من الاستعمار لقرن ونيف، أثر على مبادئ سياستها الخارجية، وعقيدتها الأمنية تجاه محيطها الدولي. مبادئ قامت على حق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الغير، والتسوية السلمية لحل النزاعات. وعدم خروج الجيش للمشاركة في أعمال قتالية (باستثناء الحروب ضد المحتل الإسرائيلي). إلى جانب مبدأ حسن الجوار.
ورتب المقال عصور الدبلوماسية الجزائرية التي سطع نجمها خلال الستينات إلى التسعينات، ثم ضمورها بسبب العشرية السوداء، لتعود مجددا منذ سنة 2000، في شكل وساطات ناجحة بدء من حل النزاع الأثيوبي الأريثيري. والنشاط الدبلوماسي الذي ميزته خبرتها في مكافحة الإرهاب. وأصبحت بذلك شريكا تطلب استشارته في مكافحة الإرهاب على الصعيد الدولي.
لكن يشير المقال إلى ان مفاهيم القوة والأمن شهدت تغيرا وتوسعا منذ نهاية الحرب الباردة. كما تغير مفهوم التهديد الذي لم يعد عسكريا صادرا عن دولة ومن جيش نظامي.
ويضيف أن تمسك الجزائر بمبادئها في ظل المتغيرات الدولية، كاد يرهن أمنها القومي. ودليل ذلك تدخل حلف الناتو في ليبيا، وإسقاط النظام هناك الذي كانت له تداعيات أمنية وخيمة على الجزائر، مازالت تواجهها الى اليوم. وانه آن الأوان للجزائر ان تستغل الظرف الدولي الحالي، لبحث آليات غير تقليدية في مواجهة التهديدات غير التقليدية. آليات تقوم على “الإشعاع الخارجي”، لتوسيع النفوذ وتشكيل البيئة الإقليمية المناسبة للمصالح العليا للبلاد.
“الغروسروم المعطل”
وفي الثالث، يستعرض المقال مكامن القوة الناعمة التي تتمتع بها الجزائر، والتي يمكن تفعيلها لزيادة النفوذ والتأثير بعيدا عن القوة الصلبة. ويطلق على ذلك تسمية “الغروسروم المعطل”، ويعني به تحريك مصادر القوة الناعمة غير المفعلة. من خلال التركيز على تاريخها العريق الذي يمتد على القرن الثلث قبل الميلاد، عوض اختزالها في سبع سنوات لثورة التحرير على أهميتها. وابقائه حيا في ذاكرة الأجيال القادمة ومنه التأثير خارج حدودها. خاصة من خلال الدعاية الإعلامية الصناعة السينمائية كما تفعل عديد الدول.
ويؤكد على ضرورة استغلال الزخم الثقافي واللغوي والطاقة السكانية والعامل الديني، الذي تتشارك فيه مع دول كثيرة من شرق ليبيا إلى المحيط، ومن جنوب المتوسط إلى عمق منطقة الساحل. فتعدد اللغات بين عربية وبربرية يمكن للجزائر من الانتشار في محيطها الإقليمي الشمال أفريقي والعربي على حد سواء.أما العامل الديني المذهبي فتعتبر الجزائر مركزا للعديد من الطرق والصوفية المنتشرة اليوم في ربوع أفريقيا. لاسيما الطريقة التيجيانية(التي يتبعها أكثر من 80 مليون شخص في نيجيريا وحدها).
ويضيف المقال أن للجزائر جالية كبيرة خارج الوطن، أو ما يسميها “الأنتيليجنسيا المهاجرة”. هذا المكون يستطيع ان يساهم في قوة البلد إذا نظمت الجهود عبر اطر ومؤسسات جامعة. حيث يمكن للمهاجرين خاصة من فئة الطلبة الترويج لبلادهم، وكذلك استقبال طلبة من دول أخرى سيسمح بالتعريف بالجزائر، ويكشف صورتها الحقيقية لا ما روج له الإعلام الغربي خلال عشرية الإرهاب. إلى جانب ترقية السياحة لما لها من دور في التعريف بأي بلد وجذب الأجانب. حيث تزخر الجزائر بمقومات سياحية أثرية. ناهيك عن تنوع المطبخ الجزائري. إضافة إلى ضرورة الاستثمار في إنجازات الكرة الجزائرية، التي صنعت وتصنع الحدث.
شروط التفعيل
وفي الجزء الأخير يعرج المقال على شروط تفعيل القووة الناعمة. ويجملها في تقديم تجربة ناجحة في الانتقال الديمقراطي/ السياسي. ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية. وإنشاء بنية تحتية متينة في قطاعي السياحة والخدمات. ثم تطوير مشروع إعلامي وسينمائي احترافي، وتطبق القيم بإخلاص في الخارج.
ويخلص المقال إلى وجود ترابط وثيق بين السياسة الخارجية والثقافة بمختلف تجلياتها. وقدرة هذه الخيرة على توسعة آفاق السياسة الخارجية وجعلها اكثر ليونة. لاسيما وان العصر الحالي ينبذ استخدام القوة الصلبة. وأضاف أن مجرد تفكير الجزائر في الاهتمام بتوفير المناخ الأنسب لتفعيل القوة الناعمة الكامنة، سيدفعها تلقائيا لتحسين وضعها الداخلي. ويسمح هذا التحسن بتحقيق مكانة “الهيمنة الحميدة”، والتحرر من “الركود” وبالتالي تتحول إلى منارة مشعة للآخرين.